على طول الطريق الممتدة من جماعة سيدي رضوان التي تضم السوق الأسبوعي، مرورا بـ”جماعة بني كلة”، وصولا للطريق الرابطة بين فاس والرباط، أصبحت أشجار الزيتون في ظرف سنوات قليلة، سيدة المكان.
حدث ذلك بعد أن ظلت المنطقة، ولعقود، رهينة لزراعات تقليدية كالقمح والشعير إضافة لنبتة “طابا”، التبغ، وهي زراعات انهارت مردوديتها مع توالي سنوات الجفاف، وعدم انتظام التساقطات.
وضع جعل نسب الفقر والهشاشة تسجل مستويات قياسية، قبل أن يزحف القنب الهندي على عدد من الأراضي في تطور كانت له انعكاسات مدمرة على الموارد المائية، وأيضا على النسيج المجتمعي، والعادات الاستهلاكية.
بعد ذلك تدخلت الدولة لطرح بدائل أمام آلاف الفلاحين الصغار، ضمن مشاريع غرس مجانية قوبلت في بدايتها برفض شبه مطلق تحول بعد سنوات لإقبال مكثف.
نهاية القنب بالمنطقة
سجل زحف زراعة القنب الهندي على عدد من الدواوير بالمنطقة، وخاصة بجماعة “بني كلة”، انطلاقا من سنة 2000، قبل أن تنجح المحاولات التي تمت لتشجيع الزراعات البديلة في فرملة هذا المد، وبالتالي عودة هذا النشاط المحظور للرقعة التي اقترن بها تاريخيا.
هذا مع استثناءات قليلة محصورة في بعض الدواوير في منطقة زومي، التي بدأ عدد من الفلاحين الصغار بها يقتنعون تباعا بالمردودية الاقتصادية للزارعات البديلة، وخاصة زراعة الزيتون كحل يمكنهم من تجاوز الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي خلفها اعتمادهم التام على زارعة القنب.
الآثار الاقتصادية الإيجابية على المستوى المعيشي لنسبة مهمة من صغار الفلاحين في الإقليم لا تخفي أيضا عدد من المصاعب التي بدأت تطرح، وبقوة، في السنوات الأخيرة، أمام تضاعف المساحة المزروعة.
إكراهات مرتبطة أساسا بالتحول الديموغرافي بالمنطقة التي عرفت هجرة عدد مهم من شبانها إما لمتابعة الدراسة، أو العمل في مدن قريبة وخاصة طنجة والقنيطرة.
وضع أدى لنقص حاد في اليد العاملة خاصة في موسم جني الزيتون، ما فرض اللجوء إلى التعاون والتكافل بين العائلات في إطار التناوب.
عبد السلام، وهو فلاح يبلغ من العمر 60 سنة، وله ابنان أحدهما بسلك الجندية، وآخر يعمل في مصنع بمدينة القنيطرة يقول أن التأثير الإيجابي لتوسع المساحة المزروعة بأشجار الزيتون، والعائد المالي الذي أصبح بمقدور الفلاح الصغير الحصول عليه سنويا، مقارنة بباقي المحاصيل التقليدية التي تتطلب عناية، ومصاريف مرتبطة بالحرث و البذور والمبيدات يصطدم بندرة اليد العاملة، بعد أن أصبحت عدد من الدواوير شبه مهجورة، مضيفا بأن أبنائه يبرمجون وقت عطلتهم السنوية مع موسم الجني لمساعدته.
ووفق عبد السلام فإن زراعة الزيتون ساهمت في خلق المئات من فرص الشغل المرتبطة بالجني والنقل والعصر، إلا أن هذا المكسب يصطدم بقلة اليد العاملة، وبالتالي ارتفاع المبالغ التي يتعين دفعها عن كل يوم من جني الزيتون بغض النظر عن الكمية، علما أن بعض المساحات المزروعة توجد في مناطق وعرة التضاريس.
وأضاف عبد السلام أن زراعة الزيتون ورغم أنها بورية، وترتهن للتساقطات، إلا أنها أصبحت موردا أساسيا لآلاف الفلاحين الذين ودعوا زراعة القنب الهندي، كما قلصوا من اعتمادهم على المزروعات التقليدية في الحدود التي تسمح لهم بتحقيق الاكتفاء، وضمان علف الماشية.
وقال أن المطلوب هو تكثيف حملات تكوين وإرشاد للفلاحين من أجل التوعية بطريقة الاعتناء بأشجار الزيتون، وكيفية علاجها من الأمراض، والطفيليات التي تؤثر على المنتوج وجودته، وكميته، خاصة في ضل عدم انتظام التساقطات وموجات الحر التي تضرب المنطقة وتؤثر بشكل واضح على أشجار الزيتون.
أصناف محلية للحفاظ على الجودة
مضاعفة المساحات المزروعة بالمنطقة تم حسب أيوب المعلم، وهو مهندس زراعي، دون الاستعانة بأصناف أجنبية خلقت جدلا ببضع الدول المعروفة عالميا بإنتاج الزيتون، كتونس، بل اعتمادا على أصناف محلية من المنطقة، وأخرى معروفة على الصعيد الوطني، وذلك ضمن شروع مشروع المخطط الأخضر وتحدي الألفية، مثل “الحوزية” و”المنارة”، وهي العملية التي كان لها إيجابيات عدة، بحكم أن بعض هذه الأصناف مقاومة لعدد من الأمراض والطفيليات كـ”عين الطاوس” وسل الزيتون.
وقال أيوب: ”جاحد من ينكر الأثر الايجابي لزراعة الزيتون على الاقتصاد المحلي والواقع المعيشي للفلاحين بالمنطقة”، مضيفا بأن إشكال طول المدة التي يتطلبها الاعتماد على زراعة الزيتون قبل الحصول على المرودية، تم تجاوزه من خلال شتلات معتمدة ومنتقاة، تزرع في أراضي المستفيدين بعد نموها لمدة سنتين وهو ما شجع عددا من الفلاحين على الانخراط في زراعة الزيتون التي أصبحت تحقق مردودية رغم أنها تواجه بصغر الملكيات، والارتهان للأساليب التقليدية”.
كما كشف أيوب أن “التناوب” لازال ظاهرة جينية بالنسبة لأشجار الزيتون في المنطقة التي تعطي كميات إنتاج تعود السكان أن تكون متواضعة أو ضعيفة أحيانا بعد كل سنة جيدة.
إشكال أكد أيوب أنه يمكن التغلب عليه من خلال اعتماد مسار تقني يبدأ من اختيار الشتلات إلى “التلقيم” وصولا لمرحة الجني، مع اعتماد السقي التكميلي.
وقال أيوب أن تراجع المساحة المزروعة بالقنب الهندي بالمنطقة كان لصالح زراعة الزيتون، وبدرجة أقل أشجار التين.
وأضاف بأن التغييرات المناخية الحالية جعلت من الصعب الاعتماد على الزراعة البورية فقط، وهو إكراه ستتم معالجته من خلال مشروع التهيئة الهيدروفلاحية للمحيط السقوي المرتبط بسد وادي المخازن، والبالغة تكلفته 580 مليون درهم، والذي يهدف إلى تعبئة واقتصاد الري وتحسين دخل الفلاح والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة، حيث سيستفيد من المشروع 5000 فلاح موزعين على 29 دوارا وعلى مساحة ممتدة لـ2500 هكتار.
وستشمل مكونات المشروع أشغال إنجاز محطة الضخ وأشغال بناء حوض لتخزين مياه الري والمعدات الهيدروميكانيكية وإنجاز محطة لتصفية مياه الري، بالإضافة لأشغال تزويد ونقل ووضع قنوات المد والتجهيزات الملحقة وإنجاز شبكات الري والمسالك الطرقية والصرف، ضمن هذا المشروع الذي أعلنت وزارة الفلاحة أنه موجه بالأساس للفلاحين الصغار، حيث يهدف إلى الرفع من دخل الفلاح من 5000 إلى 30000 ألف درهم للهكتار مع خلق مليون عمل في السنة خلال الأشغال وبالتالي خلق إقلاع اقتصادي وتنموي بالمنطقة.
أخطاء شائعة تؤثر على الإنتاجية
ذات المهندس الزراعي أشار لبعض الممارسات الخاطئة التي تضر بأشجار الزيتون، والتي تؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية، وربحية الفلاحين الصغار.
أخطاء مرتبطة أساسا بطريقة الجني التي تعتمد على ضرب الأشجار بواسطة عيدان طويلة، وهو ما يؤدي إلى إتلاف الفروع، والأغصان الجديدة التي تشكل أساس إنتاج الموسم التالي.
ونصح أيوب بأن تتم عملية الضرب من داخل الشجرة، لا من خارجها، أو عبر اللجوء لاستخدام “هزازت”، وأمشاط خاصة.
أمشاط قال عدد من الفلاحين أنها غير متوفرة في السوق المحلية.
كما شدد أيوب على أهمية “الزبارة” للتحكم في طول وشكل الشجرة، وهي العملية التي تتيح جني المحصول بسهولة دون مخاطر، خاصة حين يتعلق الأمر بالمنحدرات، مؤكدا على ضرورة الحرص منذ البداية على اختيار الشتلات والمزج بين الأنواع بحكم أن الاختلاف الجيني يساعد في تقوية مناعة الأشجار.
كما نبه أيوب لبعض السلوكات التي قد تنجم عنها أضرار فادحة، من خلال قيام بعض الفلاحين بشراء شتلات من السوق بشكل مباشرة عوض زرع الشتلات المعتمدة التي خضعت للمراقبة.
وقال أن مثل هذه الممارسات قد تشكل تهديدا بنشر بعض الأمراض في الحقل المعني والحقول المجاورة له.
ضعف التثمين يفتح المجال للمضاربة
أيوب الذي عايش بحكم عمله التحول الكبير الذي عرفته المنطقة أشار لوجود برامج محفزة من خلال صندوق التنمية الفلاحية لمنح الدعم لأي فلاح يرغب في الاستثمار في زراعة الزيتون سواء تعلق الأمر بالزراعة البورية أو السقوية التي تشكل حاليا نسبة قليلة، وهو الدعم الذي يبقى مشروطا بالحفاظ على المشروع لخمس سنوات مع تقديم إثبات على ملكية الأراضي أو كرائها طوال المدة المحددة ضمن الدعم.
ووفق ذات المهندس الزراعي فإن التوجه الحالي أصبح يشمل أيضا زراعة الرمان والبرقوق، وخاصة بمناطق اسجن وامزفورن و مصمودة.
وتابع بأن المرودية المالية المرتفعة لشجر التين مقارنة بالزيتون جعل الكثيرين يقبلون على إعادة زراعة الشجرة التي ارتبطت تاريخيا بالمنطقة، قبل أن تشهد انحسارا جعل مدينة تاونات تزيح مدينة وزان عن المرتبة الأولى من حيث الإنتاج.
وأشار إلى أن زراعة أشجار التين عادت للواجهة وخاصة الأصناف التي تعرف بها مدينة وزان، ومنها صنف “الغاني” الذي له خصائص مميزة من حيث الشكل والحجم والمذاق، وهو الصنف الذي كان محصورا ومحتكرا في مناطق محددة كاسجن و”بريشكة”، قبل أن ينتشر في عدد من الجماعات ضمن إقليم وزان.
كما أشار إلى أن التوسع في زراعة أشجار التين يصطدم بدوره بإشكالية مدة الصلاحية القصيرة للمنتوج، وقلة اليد العاملة، بحكم أن المحصول يتطلب الجني على فترات، وهو ما يستلزم تفرغا.
وشدد ذات المتحدث على ضرورة تثمين المنتوج، وهي عملية قال أن إمكانياتها متاحة، ومتوفرة، في ظل الطلب المتزايد عليه بفضل جودته التي تحولت لماركة تجارية فارقة، وهو ما يفرض الاجتهاد في استغلاله واستثماره بشكل أفضل، عوض الاعتماد على أساليب التسويق الحالية التي تفتح المجال للمضاربة من طرف التجار الكبار، الذين يتمكنون من جني أرباح مضاعفة مقارنة مع عائد الفلاحين الصغار، وهو إشكال تم الانتباه إليه من طرف الجهات المعنية.
من جهته قال فاعل جمعوي أن توالي سنوات الجفاف، وانهيار ثمن القنب الهندي، وتقلص المساحة المخصصة للزراعة نتيجة عملية التجزيء المستمر للقطع الأرضية، وغياب السقي العصري، ساهم في تراجع مداخيل الفلاحين بشكل كبير مما انعكس سلبا على مستوى المعيشة بهذه المناطق، بعد ارتفاع معدلات البطالة والفقر، قبل أن تعمد الدولة لإطلاق برامج لتحسين وضعية الفلاحين وساكنة المنطقة من خلال الزراعات البديلة التي تلائم مناخ المنطقة.
وقال أن الكثير من المناطق في الإقليم الجبلي استفادت من هذه البرامج الحكومية في المجال الفلاحي، والتي كان لها انعكاس على مستوى تحسين مداخيل الفلاحين، لكن الإشكال يبقى قائما في ضل تمسك الساكنة بنفس الأساليب التقليدية في الفلاحة، إضافة إلى مشاكل التسويق وضعف التكوين والمواكبة، و هو ما يتطلب الكثير من المجهودات من طرف مختلف الفاعلين مع تكثيف الحملات التواصلية.
الخروج من قفص الموسمية
نفس الملاحظة توقف عندها الناجي الدرداري رئيس جمعية مجموعة الأمل للتنمية التي واكبت زراعة 70 هكتار من أشجار التين مشيرا إلى ضرورة تعزيز توعية وتكوين للفلاحين الصغار من أجل تثمين المنتوج، والتعامل معه بأشكال عصرية عوض الأساليب التقليدية الحالية.
وبدوره قال الناجي الدرداري أن زراعة الزيتون التي ارتبطت تاريخيا بالمنطقة عادت للانتعاش بعد أن تخلى عدد من الفلاحين الصغار في وقت سابق عن هذه المغروسات، أو قاموا باجتثاث الأشجار عقب انهيار سعر الزيتون قبل أن يعود ثمنه للارتفاع بفعل تزايد الطلب.
وأشار إلى أن الجمعية قامت بزراعة أزيد من 860 هكتارا من أشجار الزيتون على مستوى جماعة “بني كلة” في إطار مشاريع مولت من طرف برنامج تحدي الألفية، ووزارة الفلاحة، ضمن المخطط الأخضر.
وأضاف بأن حوالي 80 في المائة من مزارعي القنب الهندي انخرطوا في العملية، ومن ضمنهم مزارعون تحفظوا على غرس أراضيهم قبل أن يقتنعوا في النهاية أمام المردودية المالية التي أصبح هذا المنتوج يتيحها لعدد من الأسر، علما أن معظم المزارعين بالمنطقة هم فلاحون صغار وبملكيات صغيرة ومتباعدة الأمر الذي يعقد أحيانا مهمة استفادتهم.
ووفق الدرداري فان الاشتغال على تثمين المنتوج يجب أن يركز على جانب الثقة لدى المستهلك بحكم أن علميات البيع والتسويق الحالي تعتمد في الغالب على العلاقات الشخصية أو تتخذ أشكال تقسيط تحول دون تمكين الفلاحين من الاستفادة بشكل أكبر،ما يفسح المجال أمام الوسطاء.
وقال الناجي أن الاشتغال على هذا الجانب، وتطوير آليات الحفظ العصري سيتيح خلق المزيد من فرص الشغل، وسيجعل الاستفادة تمتد لأشهر إضافية عوض أن تبقى محصورة في مدة الجني فقط بالإقليم الذي عززه رصيده ب19 ألف هكتار من المغروسات من بينها 15 ألف هكتار من أشجار الزيتون، فيما يتوزع الباقي على التين والعنب وأشجار البرقوق التي لازالت في بدايتها.
“المرجان” … الوجه الآخر لزراعة الزيتون
انتعاش زراعة الزيتون يترجمه المعرض السنوي الذي يقام بمدينة وزان، وهي مناسبة تشكل فرصة لتتويج بعض التعاونيات التي تساهم في تثمين المنتوج، مع توزيع بعض المعدات وآليات الجني على الفلاحين الصغار الذين استفاد بعضهم من قوافل لإبراز أهمية استعمال الأسمدة المعقلنة في الرفع من المردودية، مع تحسيسهم بأنواع أمراض شجرة الزيتون الفطرية، والبكتيرية، والفيروسية، والدودية، وتوعيتهم بكيفية محاربة الأعشاب الضارة، إما ميكانيكيا أو كيميائيا أو يدويا.
من جهة أخرى فإن توسع مساحة زراعة الزيتون طرح إشكالا بيئيا مرتبطة بمادة “المرجان” التي يتم التخلص منها في معظم الحالات في الوديان في ظل ضعف الرقابة والزجر وهو ما حذرت منه عدد من الجمعيات والفاعلين بالمنطقة الذين دقوا ناقوس الخطر من التداعيات البيئية.
هذا الإشكال من المنتظر أن تتم معالجته عبر مشروع لبناء محطة معالجة نفايات الزيتون من خلال بناء صهاريج للتبخر الطبيعي لمادة “المرجان” وبناء أحواض الترسب وتجفيف الأوحال، وشراء شاحنات صهريجية لنقل المرجان من معاصر الزيتون إلى محطة المعالجة.
المشروع رصدت له 10 ملايين درهم من أجل بناء محطة معالجة مادة “المرجان”، و 3,6 مليون درهم لاقتناء شاحنات صهريج لجمع مخلفات الزيتون، و800 ألف درهم لاقتناء الوعاء العقاري بهدف التخفيف من تلوث المجاري المائية بالإقليم، وتوفير بدائل ايكولوجية للتخلص من مخلفات معاصر الزيتون.