نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرا أعده جيسون بيرك قال فيه إن المعركة على السودان تغذيها قوى خارج حدوده. فالحرب في السودان يشترك فيها مجموعة من أمراء الحرب والانتهازيون والباحثون عن فرصة، وهي حرب لها ملامح تشبه الحرب في سوريا.
وقال الكاتب: “هذه الليلة مثل غيرها من الليالي التي مرت خلال الأسابيع الماضية، قوافل من الشاحنات تتحرك عبر الصحراء في جنوب ليبيا. يسوقون الشاحنات مع الغروب بأضواء خافتة تجنبا للاكتشاف. هذه عملية تحت الأرض، مع أنها ليست سرية بالمطلق. وعندما تخترق الحدود، يتم تقسيم القافلة، بعضها يتحرك جنوبا والآخر شرقا”.
ويقول بيرك إن معظم التقارير عن السودان ركزت على العاصمة الخرطوم والقتلى الذين بلغ عددهم 500 شخص، وحوالي 4000 جريح، والأزمة الإنسانية وعمليات إجلاء الرعايا الأجانب. ومع أن القوافل التي تعبر الصحراء قد تكون نقطة في خطة كبيرة، إلا أنها تقدم لنا صورة عن طبيعة النزاع أكثر من التقارير التي تحبس الأنفاس عن البريطانيين الذين تم إجلاؤهم ووصلوا إلى مطار ستانستد، والإحاطات في واشنطن.
يرسل حفتر الشاحنات التي تحمل النفط إلى جانب شحنات صغيرة من الذخيرة والأسلحة والأدوية إلى قوات الدعم السريع السودانية
وقال بيرك إن الشاحنات تحمل النفط من مصفاة في بلدة الجوف الليبية، إلى جانب شحنات صغيرة من الذخيرة والأسلحة والأدوية إلى قوات الدعم السريع التي تخوض معركة ضد القوات النظامية التي يقودها الزعيم الفعلي للسودان، عبد الفتاح البرهان.
والجهة التي أرسلتها من ليبيا هو خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا. ويقول شهود عيان إنه تم إرسال إمدادات أخرى مثل الصواريخ المضادة للمدرعات من نوع كورنيت والتي تم نهبها من مخازن الجيش الليبي بعد سقوط نظام معمر القذافي.
وقرر حفتر إرسال الإمدادات لأن الدول الراعية له في الشرق الأوسط طلبت منه ذلك، ولأنه يحصل على مال كثير. والحال هو أن أمير حرب في نزاع يساعد أمير حرب في نزاع آخر بطلب من قوة بعيدة. وهذه هي طريقة الحرب المعاصرة كما تتجلى في القتال بالسودان. وفي هذا النزاع لا أهمية للجبهات. أما السيطرة على المصادر، فهي الجائزة الكبرى، حيث تحاول قوى ظهرت في المناطق الحدودية الانتقام من النخب الحضرية التي احتقرتها ذات مرة.
وعليه، فعمليات التهريب عبر مساحات واسعة من الصحراء، هي امتداد لـ”فضاء المعركة”. كل هذا يحدث، وسط غموض مريب تحدده صفقات الغرف الخلفية والتحالفات المريبة للمصالح، والواقعية السياسية الوحشية وحملات التضليل. أما الفقراء والضعاف والعزل من السلاح، فهم من يعانون أكثر من أي وقت مضى. وما يحدث في السودان، مألوف بالطبع، فالحدود في أفريقيا دائما مفتوحة، كما هي في مناطق أخرى منذ وقت طويل. وكانت حروب الوكالة علامة الحرب الباردة منذ تسعينات القرن الماضي، حيث اشترك في النزاعات حول العالم عدد كبير من الدول، قوى عظمى وقوى صغيرة، دعمت فاعلين محليين وبأثر دموي.
وعادة ما اشترك في النزاعات متمردون في مناطق نائية من السودان والذي دُفعوا بشعور أنهم استُبعدوا من النخبة الفاسدة والمنحطة التي تقيم في العاصمة والمدن الكبرى. فالحرب في ليبيا خاضها المتحاربون في فوضى شاملة أو ما سمح به القانون المحلي والدولي أو حتى القانون الطبيعي. أما النزاع في سوريا فقد سجل علامة نظرا لطوله وتداعياتها الرهيبة، ولأنه في جزء منه جذب إليه مقاتلين مختلفين وعددا من رعاة الحروب، وكل لديه هدفه الخاص.
ونحن نتذكر الحرب في سوريا لأنها في لحظات ما، جذبت الانتباه العالمي للنزاع المأساوي والإجرامي الذي استمر لأكثر من عقد. وكان التركيز على النزاع لأنه بدا وكأنه خطر “علينا”، ونفس الأمر ينطبق على السودان، و”بعد إجلاء الأجانب، سيخفت انتباهنا بشكل سريع، وهي عملية سرعها التنافس في حرب أوكرانيا”، بحسب قول الكاتب.
يقول شهود عيان إنه تم إرسال إمدادات أخرى مثل الصواريخ المضادة للمدرعات من نوع كورنيت والتي تم نهبها من مخازن الجيش الليبي بعد سقوط نظام القذافي
ويضيف: “مع ذلك، كانت أوكرانيا قبل عقد أو أكثر ستبدو شذوذا تاريخيا وعودة دموية غريبة إلى الخنادق والدبابات والمدافع ودعم القوى العظمى الذي سيحدد النجاح الإستراتيجي، حيث يتم تحديد الهزيمة والنصر بطرق مختلفة، والسودان الغارق في العنف، سيترك تداعياته الكبيرة”.
وبعد صدمة البداية عندما اندلع العنف قبل أسبوعين، بدأ المحللون يتساءلون عن المستقبل، واتفق معظمهم على أن نهاية سريعة للقتال الحالي، باتت ضئيلة جدا. وكان لدى الكثيرين أمل بمقتل حميدتي وتشرذم قواته وفرض نظام ديكتاتوري عسكري يعطي مظهرا للاستقرار. ويخشى الجميع تقريبا أن المعركة بين الجنرالين قد تتحول إلى نزاعات مستعصية، حيث ستنضم الجماعات الإثنية والمحلية للقتال.
وهناك أدلة على حدوث هذا، حيث اندلع العنف بين مقاتلين لم تحدد هويتهم في دارفور الأسبوع الماضي. ولا أحد يشك في حجم الكارثة الإنسانية، فثلث سكان السودان البالغ عددهم 45 مليون نسمة، يعتمدون على المساعدات الإنسانية للطعام والمأوى والعناية الصحية. وهؤلاء ليسوا سكانا صامدين، والأقل حاجة منهم فرّوا بالحافلات نحو الحدود مع مصر.
وستكون موجة المهاجرين الفارين أكبر ربما بمئات الآلاف أو الملايين، وأكثر فقرا من الذين كانوا ينتظرون عند الحدود المصرية. وسيتوجه جزء منهم نحو أوروبا، لكن الكم الأكبر سيكون ضمن مسؤولية الجيران الذين لا يستطيعون العناية بمواطنيهم، علاوة على استقبال موجات جديدة من المهاجرين.
ويرى الكاتب أن انهيار ثالث أكبر بلد في أفريقيا سيهز الدول الهشة التي تحيط به، فقد تعرضت هذه الدول لكوارث التغيرات المناخية بعد عقود من النزاعات التي قد تهزها. وهذا يعني أن تصبح أوروبا قريبة لمحور النزاعات والفوضى. ولهذا السبب يعترف الدبلوماسيون في أحاديثهم الخاصة أنهم يواجهون “سيناريو كابوسي” في شرق وشمال أفريقيا. ويقدم مثال سوريا، فكرة عمّا يمكن أن نتوقعه في السودان. وفي الحقيقة، هناك ملامح نراها موجودة بالفعل. فهل سينقسم البلد إلى جيوب تسيطر عليها ميليشيات متحاربة؟ وهل ستتتحرك قوى خليجية خبيثة وسط صراع قوى عظمى؟ نعم.
وتدعو الولايات المتحدة الضعيفة في المنطقة لوقف القتال بدون وسائل أو إرادة لفرض رأيها. وفي الأسبوع الماضي، جرى تجاهل الكثير من اتفاقيات وقف إطلاق النار، على الرغم من شكاوى واشنطن ومناشداتها. وهل هناك عدد من الفاعلين الخبثاء مثل حفتر أو شركة فاغنر الروسية للمرتزقة التي تحاول أن تبقى تحت الرادار، وهي تحاول البحث عن فرص للتدخل الانتهازي. فهذا هو الوضع منذ سنين، لكنه انفجر نحو حرب مفتوحة.
ويتساءل الكاتب: “هل هناك إجرام كبير وشبكات متمكنة متورطة في كل شيء من المخدرات والسرقة وتهريب الآثار الثمينة وسط الفوضى؟”. وهناك تقارير عن شبكات تحاول التنقيب في مروي، الموقع الأثري المهم الذي يبعد 190 ميلا عن الخرطوم، وكان مركز القتال الأخير.
والمقارنة موجودة ليس لأن السودان وسوريا يمكن المقارنة بينهما مباشرة، ولكن لأن الحروب تبدو بهذه الطريقة في عصرنا. وعادة ما تتعايش نزاعات مختلفة معا. ويمكن النظر إلى الحرب في أوكرانيا على أنها تتويج للحروب غير التقليدية التي شنها الكرملين عبر العقود الماضية.
فالشاحنات عبر الصحراء تحكي لنا أكثر من ذلك. فقد عرض حفتر الدعم، لكنه وازن عرضه بعناية، نظرا لحاجته لإرضاء داعميه في الإمارات، الشريك الرئيسي في تجارة الذهب التي يسيطر عليها حميدتي، ولكن أيضا بدون مضايقة رعاته في مصر الذين يدعمون البرهان.
ولهذا كانت هناك حاجة للتعمية على قوافل النفط، نحو 10000 برميل في اليوم من شركة النفط الرسمية، حيث حلت مشكلة مهمة لقوات حميدتي. فالذهب يخرج والنفط يدخل، وثمنه يدفع من التحويلات المالية. وهذا توسيع في زمن الحرب لشبكات مربحة موجودة منذ عقود، فهل يستطيع أحد وقف التهريب؟ بالتأكيد لا، وهل تم خرق أي قانون؟ ربما، وهل ستمنح حميدتي النصر؟ لا. وهل ستطيل أمد الحرب؟ بالتأكيد.
ولا تتحرك الشاحنات في فراغ جيوسياسي. فدعم الإمارات لحفتر وحميدتي هو جزء من المنافسة في الشرق الأوسط والمكاسب المالية. فموسكو متساوقة مع استراتيجيتها لدعم الأطراف المخربة من أجل أن تنتفع ماليا من حميدتي، وسياسيا من الفوضة الناجمة. وتدعم روسيا حميدتي وقوات الدعم السريع منذ سنين. ويفعل الروس في السودان ما فعلوه في منطقة الساحل بأفريقيا، حيث أضافوا جرعة من التضليل للسودانيين. وهم حريصون على قواعد عسكرية في المحيط الهندي، وهنا نرى صدى سوريا والقواعد العسكرية الروسية على البحر المتوسط.
وللسعودية اهتمام بمواجهة منافسيها في المنطقة، والوصول إلى المصادر الزراعية في السودان. وتريد مصر نظاما عسكريا ديكتاتوريا في السوادن، وتريد انتصار البرهان. ويحاول الصينيون الحصول على مكاسب ضد الولايات المتحدة.
أما أوروبا والولايات المتحدة وبريطانيا، فكلها لديها مصالحها إن لم يكن الطرف المفضل. وهذا النزاع ليس نزاعا أيديولوجيا، فرغم وجود إسلاميين في هذا المزيج، إلا أن ما يعتقدون به يظل هامشيا، فلا البرهان أو حميدتي قدم رؤية سياسية.
ويتحدث الأوروبيون والأمريكيون كثيرا عن القيم، لكنهم يعترفون أن الأولوية في السودان هي الحد من التهديد على مصالحهم الذي سيجلبه الانهيار الشامل. فطبيعة المعركة الحالية، هي تنافس عنيف وفوضوي جدا يحاول فيه كل طرف الحصول على منافع تكتيكية واستراتيجية. وهو قاس على المستوى الجيوسياسي كما هو في شوارع الخرطوم، ويجلب إليه بشكل مستمر عددا متغيرا من الانتهازيين والباحثين عن الفرص والمستغلين، والذين لا تختلف نواياهم كثيرا عن بعضهم البعض، سواء لبسوا البدلات أو الزي العسكري أو الثوب السوداني أو العربي. وهي حرب أمراء حرب، كبار وصغار وهذا هو نزاع عصرنا.