إذا لم تكن من أهل طنجة فإنه يصعب عليك أن تتصور أن المباني المتزاحمة والضيقة بالمدينة القديمة تضمّ “فنادق” غير مصنفة، من نوع خاص، تعرف بالـنزل أو “البنسيون (Pension)”، وتتميز برُخص ثمنها، وبتوفيرها للحدّ الأدنى من شروط المبيت للعابرين والسياح.
وتتمركز هذه البيوت خصوصا بالمدينة القديمة، وتقل تدريجيا كلما توجهنا نحو “البوليبار”، ثم تنعدم بالابتعاد عن محج محمد السادس (الكورنيش) ووسط المدينة.
قبل عقود مضت، كانت هذه “البنسيونات” تعرف رواجا كبيرا، خصوصا أمام العدد القليل من الفنادق المصنفة بطنجة آنذاك، كما أن السياحة كانت في وضع أفضل مما هي عليه الآن، على الأقل من ناحية النوع ومحدودية الاختيارات أمام السائح، وكذا من حيث الجنسيات المتعددة التي كانت تزور المدينة.
لكن، ومنذ أواخر التسعينيات، عرفت مدينة طنجة تطورات على عدة مستويات، صبّت أغلبها في تقزيم دور هذه “البنسيونات”، التي أصبحت تعاني كثيرا في ظل واقع لم يعد يتماشى وما تقدمه من خدمات، تعتمد في مجملها على البساطة من جهة، ووفرة الزوّار من جهة أخرى.
تدهورٌ وآمال
يقول “لحسن.ب”، مشرف على نُزُلٍ بشارع المكسيك: “لقد تدهورت الأمور كثيرا مؤخرا، خاصّة بعد خضوع ميناء المدينة للتأهيل، وانتقال معظم الرحلات البحرية إلى الميناء المتوسطي. العابرون والقادمون من وإلى إسبانيا كانوا يشكلون نسبة هامّة جدا من زبائننا، أما الآن فقد انخفضت نسبة زبائننا إلى أكثر من النصف”.
“يكفي أن تعرف أن موسم رأس السنة، مثلا، كان يمثل بالنسبة لنا ذروة العام، إذ كان النزل يمتلئ عن آخره”، يقول لحسن، ثم يضيف: “في السنوات الأخيرة أصبح الإقبال في رأس السنة عاديا جدّا، وكأنه يوم كباقي الأيام..هناك سبب قوي، وهو الفنادق المصنفة الكبيرة التي تم بناؤها مؤخرا في مدينة طنجة، والتي لم يعد لنا معها نصيب”.
ويواصل لحسن معبرا عن أمله في أن تجد هذه “البنسيونات” مكانا لها في طنجة الكبرى: “نحتاج إلى مهرجانات كبرى وتظاهرات رياضية محلية أو عالمية تنظم بطنجة، كمباريات المنتخب الوطني مثلا، التي توفّر زبائن كُثرا، إذ تصبح الفنادق الكبرى غير كافية، وهنا يأتي دورنا”.
يبدو النزل الذي يعمل فيه لحسن نظيفا وحسن المظهر..سألناه عن الأسعار فأجاب: “تختلف حسب الموسم، وحسب الخدمات التي يريدها الزبون، من مساحة، وتوفّر الحمّام وغيرها..الأمر عموما يتراوح بين 100 و300 درهم لليلة الواحدة”.
أما الزبائن فقال لحسن إن عددهم يُراوح العشرة يوميّا، في نزله الذي يضمّ 39 غرفة، ولا يتعدّى أربعة طوابق.
الجائحة.. الضربة القاصمة
أثرت جائحة كوفيد 19 كثيرا على قطاع السياحة بالمغرب عموما، وفي طنجة خصوصا باعتبارها مدينة سياحية، وبالتالي كان لهذه البنسيونات، التي يمكن اعتبارها مقاولات صغيرة أو صغيرة جدا، الحظ الكامل والأوفر من الأزمة.
يقول أحمد.ي، أحد العاملين بنزل يتواجد بـ”عقبة البلايا” أن الوضع شكل كابوسا بالنسبة لهم خلال عاميْ الجائحة موضحا “نحن الحلقة الأضعف في الأزمة طبعا، فلا نحن نحصل على دعم، ولا نحن نستطيع إيجاد بدائل، لأن اعتمادنا جله أصبح على السياحة الداخلية، والسياح “العشوائيين”، إضافة إلى إقامة المهرجانات والمناسبات”.
ويضيف أحمد “لقد كانت السنتان الماضيتان كارثة فعلا، وأملنا الوحيد الآن في هذه الانفراجة، لعلنا نستطيع استدراك وتعويض بعض الخسائر خلال فصل الصيف هذا”.
بساطة ومنافسة
في المدينة القديمة دخلنا نزلا قديما وصغيرا من طابقين، يضمّ 11 عشرة غرفة، ويتراوح ثمن المبيت لليلة الواحدة فيه بين 40 و50 درهما، حسبما أخبرنا بذلك مالكه “داوود”.
تبدو “البنسيونات” في المدينة القديمة أكثر بساطة وضيقا من ناحية المساحة، لكنها أيضا أكثر عراقة، وفيها لمسة يعشقها السياح الأجانب في الغالب.
“كان هذا صحيحا في ما سبق..الآن لم يعد الأجانب يبيتون عندنا إلا نادرا”، يوضّح داوود، ثم يضيف: “لقد أثرت علينا كثيرا عملية شراء الدّور القديمة من طرف الأجانب، وتحويلها إلى دور ضيافة، أصبحت منافسنا القويّ”.
ويضيف داوود أن “الأجانب الذين يستثمرون في دور الضيافة لديهم كل الإمكانيات لتجميلها والتسويق لها بكل الطرق، في مقابل أنهم لازالوا يشتغلون بالطرق العادية البدائية المعتمدة على انتظار مرور الزبون واختياره المبيت عندهم صدفة”.
ويستطرد داوود: “لديهم مواقع إنترنت خاصة بهذه الدّور، يوفرون فيها كل ما يحتاجه السائح القادم إلى طنجة من معلومات وتفاصيل، وهو ما لا نستطيع توفيره بإمكانياتنا البسيطة والمحدودة”.
“كلّ هذا، إضافة إلى أن الميناء القديم زاد من تدهور الوضع وأصبح الموسم الأكثر ازدهارا في العام كله لا يتعدّى شهرا واحدا هو شهر غشت، بينما لا يتعدى في باقي أشهر السنة عدد الزبائن في اليوم أصابع اليد الواحدة”، يقول داوود.
ليوناردو دي كابريو
يوفر النزل الذي يمتلكه “داوود” المبيت فقط، بينما هناك حمام واحد مشترك لمن أراد استعماله، ومع ذلك، ونظرا لقيمة النزل التاريخية، فقد كان من حظه أن الممثل العالمي “ليوناردو دي كابريو” قرّر أن يجعل استراحته فيه، بعد أن قام بتصميم جزء منه على مزاجه، وذلك أثناء تصوير فيلمه “Inception” بالمدينة القديمة سنة 2010.
“المشكلة أن أغلب البنسيونات هنا ليست ملكا لمستثمرين أو ما شابه، فأغلبنا ورثناها عن آبائنا، الذين كانوا يتخذونها مساكن قبل أن يحولوها إلى فنادق، وبالتالي فإنها تبقى مشاريع أسرية لا تكاد تخضع لما تخضع له باقي المشاريع الاستثمارية عموما”، يضيف داوود.
الإحصائيات غائبة
وعن تدخّل الدولة لمحاولة إنقاذ هذه “البنسيونات” الصغيرة من الإفلاس، قال لنا داوود إن العلاقة الوحيدة مع الدولة بالنسبة لهم هي أنهم يدفعون لها 6 ضرائب في العام، لا أقل ولا أكثر !
الغريب أن مندوبية السياحة لا تتوفر على إحصاءات حول هذه “البنسيونات”، وقد أخبرنا مصدرنا أنها ليست مسجلة لديها، بل يتم تسجيلها لدى الدوائر الأمنية، وتكتفي المندوبية بتوفير المعطيات عن الفنادق المصنفة فقط.
وبين واقع تدهورها يوما عن يوم، في مدينة تكبر وتلتهم كل ما هو صغير، تبقى بنسيونات طنجة ذات نكهة خاصة بالنسبة لأبناء المدينة القدامى، وبالنسبة لبعض السياح الذين يفضلونها حتى على الفنادق المصنفة، لما تتحلى به من بساطة وشعبيّة لا تخلو من جمال.