تحت أشعة شمس صيف طنجة الحارّة، يقف عبد السلام وأخوه محمّد مُمسكيْن بأيدي أبنائهما وهما يديران رؤوسهما يمنة ويسرة بحثا عن وسيلة نقلٍ تقلّهم من شاطئ الغندوري إلى منطقة السواني حيث يقطنون.
تطول فترة الانتظار، ويبدأ تأفّف الأطفال وتعبهم، قبل أن تتوقّف سيارة نقل متوسطة وتقترح نقلهم بثمنٍ بخسٍ، فيوافق الأبوان دون تردّد وهما يطلقان تنهيدة ارتياح.
لا يوجد أي مؤشر يدل على أن سيارة النقل مرخّصٌ لها من طرف أي جهة، لكن الزّبائن لا يسألون ولا يهمهم أن يعرفوا، فما يشغلهم حقا هو أن يصلوا إلى وجهاتهم ربحاً للوقت والمجهود.
رحلة وأسئلة
رافقْنا الجميع في رحلتهم لنطرح عليهم أسئلتنا ونعرف حيثيات ما يحدث وكيف يحدث. فكان أوّل المتحدّثين هو الزبون عبد السلام الذي قال: “شخصيا، أعتبر هذا النوع من النقل السري داخل المدار الحضري رحمة كبيرة جدا لنا نحن الزبائن، فلولاه لبقينا في الشارع تحت قيظ الشمس إلى وقت متأخر من النهار دون أن نجد من يقلّنا. طنجة الآن تختنق من شدّة الزحام والعثور على تاكسي صغير أو كبير يكاد يكون مستحيلا”.
ويلتقط أخوه محمد خيط الكلام مؤيّدا الفكرة، “ما يحدث هو أننا نستفيد كزبائن، كما يستفيد صاحب هذه السيارة، فيقضي الجميع غرضه دون أن يتضرّر أحد.. لا أرى أين توجد المشكلة بصراحة”.
من جهته يقول سائق السيارة معلقا: “على عكس ما يعتقد الكثيرون، فنحن لا نأخذ مكان سيارات الأجرة ولا نزاحمهم في أرزاقهم، نحن فقط نقوم بمهمة مكملة، فسائقو التاكسيات في أيام الصيف لا يشكون من قلة الزبائن، بل من كثرتهم إلى درجة أنهم يقومون بانتقاء من يقومون بخدمته، وذلك تبعا لعدة معايير.. بالنسبة لنا، فنحن نحمل الجميع وبأثمنة جد مناسبة، رغم الغلاء الشديد في أثمن المحروقات”.
من شاطئ الغندوري إلى السواني كان سعر الرحلة هو 5 دراهم، وهو سعر رخيص جدا مقارنة مع أسعار التاكسيات، “هذا ما كنت أتحدث عنه، نحن نقدم خدمة بثمن مناسب، وفي الوقت المناسب، دون أن نحاول مزاحمة أحد، بل نقوم بهذه المهمة في الوقت الذي نرى فيه خصاصا واضحا وحاجة الناس إلى وسائل النقل”، يضيف السائق.
مخاطر وتهوّر
وإن كانت حالة السيارة التي رافقناها جيدة وسائقها يبدو رزينا وودودا، فإن هذا الحال لا يتكرر مع عددٍ من ممتهني النقل السري بطنجة؛ حيثُ اشتكى عددٌ من الزبائن من رعونة بعضهم.
زينب.س، 27 سنة، تقول وهي تصف ما حدث أثناء انتقالها من حيّ السّانية إلى حيّ كاساباراطا عبر إحدى سيارات النقل متوسطة الحجم: “لقد كان السائق يسير بسرعة جنونية، ويقوم بالتجاوز دون احترام لقواعد المرور، وقد ظل كل الزبائن يصرخون ويحذرونه لكنه لم يبال إطلاقا، ولم نصل إلى وجهتنا إلا ونحن في حالة نفسية وجسدية يرثى لها”.
ما حدث لزينب يكاد يحدث بشكل يومي ورواه لنا عددٌ من الرّكاب مع اختلاف بسيط في التفاصيل والأماكن، لكنّ الإجماع كان على أن الخطورة حاضرة بشكل كبير في استعمال وسائل النقل السري.
يذكر سكّان طنجة الحدث المأساوي الذي عرفه شهر رمضان في أحد الأعوام؛ حيث كان الشرطي “رشيد.ش” قد اعترض طريق إحدى سيارات النقل المزدوج التي تمتهن النقل السري بعد أن سجّل عليها مخالفة، لتكون تلك هي آخر لحظاته في الحياة بعد أن دهسه سائقها ولاذ بالفرار قبل أن يقع في قبضة الأمن في وقت لاحق.
المأساة كادت تتكرر، في يوم آخر، لكن بشكل مختلف، بعد أن نشب صراع بالسيوف بين سائقيْ سيارتيْ نقلٍ مزدوج حول مكان لركن السيارات قرب المحطة الطرقية، لتروج شائعة مقتل أحدهما، قبل أن يصدر توضيحٌ أمني أورد أن الشجار نتجت عنه إصابات خطيرة في جسديْ المتعاركين اللذين تمّ إيقافهما، بينما أصيب الركاب والمارة، بمن فيهم والأطفال، بهلع شديد.
مهنيون يشتكون
ولا تقف سلبيات الأمر عند هذا الحدّ، بل إن المهنيين المرخص لهم، وعلى رأسهم سائقو التاكسيات، لا يتفقون على أن النقل السري مكمّل فقط لمهمّتهم، بل يرون أنه يتجاوز ذلك ويزاحمهم في الحصول على الزبائن.
سعيد.أ، سائق تاكسي صغير، يقول: “دعك من سيارات النقل المزدوج الكبيرة، هناك الآن سيارات صغيرة تقوم بمهمة التاكسي، ويقوم أصحابها بالوقوف قرب الزبائن ودعوتهم إلى الركوب مقابل تسعيرة شبيهة بالتي نعتمدها، أو تنقص عليها قليلا، وهؤلاء الزبائن قد يكونوا أفرادا، ما يعني أننا يمكن أن نقلّهم إلى جوار زبائن آخرين، وهي فرصتنا الوحيدة لزيادة دخلنا قليلا في فصل الصيف، وفي ظل الغلاء الحارق.. لكن للأسف نتعرّض للمزاحمة من طرفهم”.
قد يكون النقل السري وسيلة فعلا لقضاء حاجات كثير من الرّكاب الذين يتعذر عليهم إيجاد وسيلة نقل مرخّص لها بالسهولة المفترضة بمدينة طنجة، لكنّ بالمقابل فإنه يترك آثارا سلبية كثيرة لدى مهنيين حقيقيين، في حين قد يشكل خطرا داهما على الرّكاب أنفسهم الذين يتحوّل بحثهم عن الأسهل أحيانا إلى كابوس مخيف، والوحيد الذي يستطيع وضع حد لكل هذا أو تنظيمه هي السلطات.