تبرز دراسة للبنك الدولي أن 60 في المئة من المغاربة يسكنون اليوم في المناطق الحضرية، مقابل 35 في المئة فقط سنة 1970، وذلك راجع أساسا إلى استمرار الهجرة القروية والزحف العمراني.
كما أن معدل التمدن في المغرب انتقل من 8 في المئة إلى ما يقارب 60 في المئة خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى ازدياد السكان الحضريين من 44000 نسمة سنة 1912 إلى 18 مليونا سنة 2012، فيما يأخذ هذا التطور منحى مطّردا حيث من المتوقع أن يصل معدل التمدن إلى 70 في المئة سنة 2025.
ونظرا لمكانتها في المشهد الاقتصادي الوطني، فإن مدينة طنجة، أصبحت تشهد زحفا إسمنتيا متسارعا، يهدد المساحات الخضراء المحيطة بالمدينة، على المدى القريب والمتوسط.
ومما يفسر التوسع العمراني السريع في السنوات العشر الأخيرة، استقبال المدينة لموجات الهجرة الداخلية التي ترفع الطلب على السكن وباقي المنتجات العقارية، غير أن العرض المقدم من السوق العقارية لا يلبي حاجيات هذا الطلب.
ومن تداعيات اختلال ميزان العرض والطلب، في السوق العقارية، ظهور أحزمة البناء العشوائي في محيط المدينة.
طنجة تتوسع عمرانيا
يرى المختار ميمون، رئيس مجلس جهة الشمال للمهندسين المعماريين، أن طنجة يجب أن تستعد للتوسع العمراني بوتيرة تساير النشاط الاقتصادي للمدينة، وذلك من خلال تعبئة الرصيد العقاري المتوفر داخل نفوذها الترابي.
ويضيف ميمون أن منصة “رخص” الإلكترونية استقبلت في عام 2021 حوالي 2045 طلبًا للحصول على تصريح بالبناء في إقليم طنجة أصيلة، بما في ذلك 360 مشروعًا كبيرًا. كما ارتفع عدد الطلبات في عام 2022، إلى 2498 طلبًا، بما في ذلك 505 مشروعًا كبيرا.
ويعتبر ميمون أنه لمواجهة هذا التوسع العمراني فإن الوكالة الحضرية، قامت بتدبيره على مستوى مناطق “السواني، مغوغة، وبني مكادة”.
كثرة المتدخلين يعرقل الاستثمار
وكشف محمد بوحديد، موظف في قسم التعمير بمقاطعة طنجة المدينة، أن كثرة المتدخلين في مجال التعمير يحول دون منح رخص بطريقة سلسة للمستثمرين في العقار، كما أن غياب تصميم للتهيئة طيلة الـ10 سنوات الأخيرة، تسبب في ظهور أحياء غير مهيكلة محاطة بأحزمة المدينة.
وأضاف أن طنجة هي ثاني قطب اقتصادي على مستوى المملكة، وبالتالي يجب أن تتم تهيئها على مستوى البنيات التحتية لاستقبال الوافدين من مختلف مدن المغرب وقراها.
مدينة “العشوائي”
بلال أكوح، المستشار الجماعي عن الحزب الاشتراكي الموحد، أوضح أن كل متتبع لملف التعمير بطنجة لا يمكنه أن يخفى عليه طابع التساهل الذي عرفه هذا القطاع بالمدينةِ.
وأضاف: “لسنوات طويلة، كانت نتيجة هذا التساهل تحول طنجة إلى واحدة من المدن المغربية الأكثر احتضانا للأحياء العشوائية التي بنيت دون ترخيص، مع ما يعنيه ذلك من غياب الشروط الضرورية الدنيا للسكن اللائق. الملفت والمقلق أن الأزمة التعميرية تلك كانت مجالا مُسيطراً عليه من طرف لوبيات مستفيدة ماديا”.
واعتبر أن انتشار مظاهر البناء العشوائي أرخى بظلاله على الصورة “المورفولوجية” للمدينة، كما راكم انتشار الفوارق بين مجالات المدينة على مستوى الخدمات الأساسية.
وأضاف: “حاليا تعرف المدينة نوعا من “البلوكاج” على مستوى رخص البناء في بعض المقاطعات مثل مقاطعة بني مكادة، ما يمكن تفسيره بأمرين في السياق الحالي: الأول هو المراقبة الصارمة لملف التعمير، ولعل تلك الصرامة راجعة للتخوف من التقارير التي رفعت من طرف لجان تفتيش مركزية والتي بلغت مضامينها لولاية الجهة“.
وتابع: “الأمر الثاني هو حالة الانتظار التي تعيش على إيقاعها ساكنة المقاطعة في العلاقة مع مشروع تصميم التهيأة، والذي سيشكل الإفراج عنه فرصة لبعث دينامية تنموية داخل تراب المقاطعة، وبالتالي حاليا لا يمكن العبث بما تبقى من مجال فارغ يمثل مجالا للتوسع واحتضان مرافق وبنيات ترفع من مستوى التنمية بالمقاطعة”.
واعتبر، أن ما هو مؤمل من حالة الانتظار، هو استقرارها على حلول ناجعة تستفيد منها كل الفئات الاجتماعية في توفير سكن لائق وفق الخصوصيات المادية والاجتماعية، مع استحضار المرافق والخدمات الضرورية.
“اكزناية” تحت رحمة الوكالة الحضرية
من جانبه، اعتبر رضوان غيلان، نائب رئيس جماعة اجزناية المكلف بالتعمير، أن الجماعة منذ عدة أشهر تعيش “النقطة صفر” في مجال التعمير، حيث تجمدت الأنشطة بشكل شبه كامل، في انتظار إخراج الوكالة الحضرية لتصميم التهيئة وتصاميم إعادة الهيكلة، وذلك في إطار الإرادة الجماعية لدى السلطات الإقليمية والمجلس الجماعي في وضع حد للبناء العشوائي، وبداية مرحلة جديدة عنوانها نسيج عُمراني يحقق التوازن ما بين تلبية عروض الطلب على السكن وما بين الحفاظ على جمالية المجال الترابي لمدينة اكزناية.
كما اعتبر أن هذا التحدي اليوم، “يصطدم بالعديد من العراقيل والإكراهات التي تفوق إمكانيات المجالس المنتخبة، وذلك بسبب قانون تعميرٍ يعطي صلاحية مُطلقة للوكالة الحضرية، ويُقزم صلاحية الجماعات في مجال التعمير، رغم أن المجلس الجماعي هو صاحب المشروع والمعني الأول بالتعمير، لأن البقع الأرضية تقع في مجاله الترابي، وجميع الإجراءات المسطرية تمر عبر إدارة الجماعة، لكن حين تصل المسطرة إلى نقطة الإذن بالبناء أو الرفض فإن الصلاحية الكاملة في يد الوكالة الحضرية”.
وتابع: “من جهة ثانية، فإن الوكالة الحضرية هي المسؤولة عن إعداد وإصدار وثائق التعمير، بينما تسهر جماعة اكزناية على حسن تطبيق مقتضيات تصميم التهيئة أو تصاميم إعادة الهيكلة، وبالتالي فإننا نمر من مرحلة فراغ بسبب ذلك”.
التجزيء السري والسلطة
وقال زكرياء أبو النجاة، رئيس حركة الشباب الأخضر، إن مشكل تصميم التهيئة بطنجة فتح المجال لمواطنين من أجل الترامي على المساحات الخضراء.
ووصل الأمر إلى حد البناء العشوائي في غابات تعتبر متنفسا للمدينة بينها “الرهراه“، وذلك تحت أعين السلطات التي لا تمارس دورها الرقابي، ما يتسبب في إشكالات كبيرة، سواء للدولة أو الجماعات الترابية، حيث تضطر إلى تفعيل برامج لإعادة الهيكلة للأحياء الناقصة التجهيز، كما هو الأمر في حي “مسنانة“.
ويرى أبو النجاة، أنه للقطع مع البناء العشوائي، يجب تشديد المراقبة مع معاقبة المتواطئين، مورداً بالقول: ” لا يمكن بناء أحياء عشوائية بأكملها دون علم من القايد والمقدم، كما أن هناك تواطؤ، حيث يسمح للمواطنين بالبناء بشكل عشوائي ثم تأتي السلطات للهدم”.
وبالنسبة للناشط البيئي فإنه “حان الوقت لإعطاء وضع خاص لغابات طنجة ومساحتها الخضراء، كما في الرباط”، مقترحاً، لحماية المساحات الخضراء والغابات، “تحويطها وحراستها، لكي لا يتم استغلالها لأغراض عقارية”.
قطاع “الفساد” و”الكولسة”
وبالنسبة للدكتور ابراهيم المراكشي الأستاذ الجامعي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة عبد المالك السعدي، فإن التعمير بطنجة يواجه تحديات جمة، فالنمطين الحضري والعمراني الذي تتخذها المدينة يضعها في مواجهة تحديات قانونية وأمنية ولوجستيكية واجتماعية واقتصادية وبيئة جمة. وجميع تلك التحديات مترابطة، إذ يتطلب معالجتها مقاربات نابعة من العلوم القانونية وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع.
ويضيف “لا بد من الإشارة في البداية إلى كون التعمير بمدينة طنجة سجل في الآونة الأخيرة العديد من النقاط الإيجابية، التي صبت في مصلحة جمالية المدينة ورونقها العمراني وتحسين بنياتها التحتية، وذلك بفضل مشاريع ملكية مهيكلة؛ دون أن يخفي ذلك بعض النواقص والعديد من المشاكل”.
ويرى المراكشي “أن التعمير بمدينة طنجة يعاني من مشاكل لها ارتباط بما هو قانوني. فمعظم وثائق التعمير عاجزة عن مواكبة التوسع العمراني السريع الذي تشهده المدينة. فتصميم التهيئة مثلا يستغرق إعداده عدة سنوات نتيجة بطء المسطرة المعتمدة وكثرة المتدخلين والضغوطات من تحت الطاولة التي يمارسها اللوبي العقاري، لتغيير الوضعيات القانونية والتعميرية للمناطق العمرانية الجديدة، الشيء الذي يجعل من هذه الوثيقة، حين إصدارها، بدون جدوى ولا تنسجم مع الواقع الذي شهد تغييرات جمة طيلة فترة إعداده. إن مخطط تصميم التهيئة لا تتم مراجعته في الوقت المحدد له، إذ غالبا ما تتجاوز الفترة عن عشر سنوات، وحتى حينما تتم المصادقة عليه لا يتم تفعيله إلا سنوات بعد ذلك، بسبب تعقيدات بيروقراطية وكثرة المتدخلين، والتأثير السلبي للوبي العقاري”.
ويشير في هذا الإطار إلى أن قطاع التعمير بمدينة طنجة “من بين أكثر القطاعات التي يشوبها الفساد والكولسة أثناء منح تراخيص البناء، وغض البصر مقابل رشاوي عن أشغال البناء غير القانونية، إضافة إلى ازدواجية المعايير أثناء تطبيق قانون التعمير”.
ويعتبر الأستاذ الجامعي، أن النمو السريع للمدينة بشكل أفقي وعمودي، وتوسعها عمرانيا نتيجة النمو الديمغرافي، الناتج أساسا عن تدفق سكاني مخيف نحو المدينة، يضع الجماعة والسلطات العمومية المحلية أمام تحدي ضرورة جعل المرافق العمومية، خصوصا ذات الطابع الاجتماعي، كالمستشفيات والمدارس، تواكب بشكل متناسب مع الزيادة السكانية.
كما أن ضعف الخدمات الاجتماعية وتردي جودتها يعود إلى الضغط الكبير الذي تشهده تلك المرافق، واستنزاف بنياتها التحتية، نتيجة تجاوز قدرتها أو طاقتها الاستيعابية. فمثلا ظاهرة الاكتظاظ بالمدارس الابتدائية تعود إلى كون ارتفاع الولادات بالمدينة والزيادة في الأقسام التعليم الابتدائي يسيران بوتيرتين مختلفتين.
وارتباطا بالتوسع العمراني السريع الذي تشهده المدينة، فإن جزءا كبيرا منه يتخذ طابعا عشوائيا، وإن قلت نسبه من أنماط العمران في الآونة الأخيرة، فلم يعد بنفس الحدة الذي ساد بها سنوات التسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، بيد أنه مازال متفشيا في المناطق شبه الحضرية والتي أصبحت تشكل جزء من المدار الحضري لمدينة طنجة. وهو الأمر الذي يؤثر سلبا على جمالية المدينة وجاذبيتها السياحية، ويطرح للجماعة وللسلطات العمومية المحلية مشاكل ذات طابع بنيوي، تتعلق بتقريب الخدمات العمومية للمواطنين(التجهيز، الماء والكهرباء، التطهير، الصحة، التعليم، إلخ.)، وأيضا بحركة النقل والتنقل داخل تلك المناطق. نشير إلى كون البناء غير القانوني يفوت على خزينة جماعة طنجة مداخيل ضخمة تقدر ب 550 مليون درهم.
إضافة إلى جيل جديد من المشاكل العمرانية، والتي تتجسد أساسا في المهاجرين الأفارقة غير النظاميين والقاصرين، اللذين ينعتون ب “أطفال الشوارع“، وانتشار تعاطي أصناف حديثة من المخدرات الجد فتاكة. هذه الأمور لها ارتباط وثيق بالتعمير، لأنها تؤثر على مكتسبات المدينة، وعلى جاذبيتها الصناعية والساحية.
ومن وجهة نظر المراكشي فإنه يستحيل وضع حد لهذه المشاكل بدون تقليم أظافر اللوبي العقاري بشقيه: “اللوبي المهيكل” ولوبي “مافيا البناء العشوائي“.