لو كنت عاشقا لأنواع الزهور، وعاشقا لمدينة طنجة أيضا، فأنت بالتأكيد سمعت يوما عن زهرة حملت اسم المدينة وهي “سوسن طنجة”.
هذه الزهرة النفسجية الجميلة التي تسر الناظرين، والتي يطلق عليها أبناء المدينة القدامى اسم “ماطا”، والتي ظلت طنجة هي موطنها الأصلي.
لكنك ستتفاجأ لو أنك توجهت نحو بائعي الورد، خصوصا مؤخرا، وسألتهم عنها، حيث ستجد أن أغلبهم لا يبيعها، لأن هذه الزهرة للأسف الشديد، في طريقها للاختفاء والانقراض تماما من المدينة بسبب زحف الإسمنت بدرجة أولى وعوامل أخرى بدرجة ثانية.
في موسوعة النباتات الإفريقية
هي إذن واحدة من ضحايا زحف الإسمنت وتلوّث البيئة بمدينة طنجة، زهرةٌ بغصن أخضر ووُريقات زرقاء تميلُ إلى البنفسجي وبتُويْجٍ أصفر، وبطولٍ يبلغ 60 سنتمترا كحدّ أقصى، تتواجد بكثافة على طول منطقة “فال فلوري”، وصولا إلى منطقة “بوخالف”.
يمرّ أمامها آلافُ العابرين يوميا دون أن يدركوا أنه على بعد خطوات منهم توجد زهرة تمّ اختيار اسمها العلمي نسبة إلى مدينة طنجة، فأطلق عليها “IrisTingitana”،Iris” تعني سوسن وTingitana اسم لاتيني الأصل يعني “من طنجة”.
يقول الدكتور محمد البقالي، أستاذ علم النبات بكلية العلوم والتقنيات بطنجة، إن زهرة “سوسن طنجة” تنتمي إلى فصيلة السّوْسَنيات، التي يوجد منها 210 أنواع حول العالم، ثلاثة عشر منها تتواجد بالمغرب، و8 تنبت في أرض طنجة، وعلى رأسها نجد هذه التي حملت اسم المدينة.
تمّت الكتابةُ عن “سوسن طنجة” لأول مرة في موسوعةٍ متخصصة في النباتات الإفريقية سنة 1852، بواسطة باحثيْن، واحد سويسري والآخر فرنسي.
اهتمام واحتفاء
يقول الدكتور أحمد أعراب، أستاذ بكلية العلوم والتقنيات بطنجة، متخصّص في علم الأحياء: “تتفتّح أوراق “سوسن طنجة” خلال شهريْ يناير وفبراير، ونظرا لجمالها، فقد قصدها تجار الزهور من أنحاء مختلفة من المغرب لبيعها في كثير من مدن المملكة؛ وهي تصدر كذلك إلى بعض البلدان الأوربية، كإسبانيا وفرنسا”.
ويضيف أعراب: “أثارت هذه الزهرة اهتمامي بشدة، ممّا دفعني سنة 1999 إلى تنظيم يوم دراسي بكلية العلوم والتقنيات حول “سوسن طنجة”، بعد أن لاحظت أن أغلبية أهل طنجة لا يدركون أنها تميز مدينتهم، فكانت تلك فرصة للتّعريف بقيمة الزهرة والمخاطر البيئية التي تتهددها”.
ويتذكر أعراب أنه شارك في هذه التظاهرة الفنان سعيد العراس، الذي قام برسم لوحات رائعة جدا لـ”سوسن طنجة”، وقام كذلك بتأطير تلاميذ إعدادية بطنجة، قام كل منهم برسم لوحة لهذه الزهرة، في مبادرة جميلة أظهرت اختلافا في طريقة رؤيتهم لها وتفاعلهم الفنّي مع أهميتها، يواصل أعراب.
لم يقف اهتمام أعراب بالزهرة عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى إنتاج وإخراج فيلم وثائقي عنها، عُرض في اختتام مهرجان خريبكة للفيلم الوثائقي سنة 2014.
الإسمنت.. القاتل الصامت
ين سنتيْ 1999 و2022 تغيّر في مدينة طنجة الكثير والكثير..تغييراتٌ كان لسوسن طنجة نصيبٌ سيّء منها. مركبّات السكن الاقتصادي بدت كأنها تتبع أثر الزهرة شبرا بشبر، إذ احتلّ الإسمنت أغلب أماكن تواجدها، مواصلا مطاردته لها نحو الجنوب، منطلقا من منطقة “فال فلوري”، ومتجاوزا المدينة الجامعية.
ويزيد الدكتور أعراب موضحا: “أريد أن أشير إلى أن الحي المسمى فال فلوري Val fleuri يعني الوادي المزهر، لكونه كان في الماضي غير البعيد غنيا بالأزهار، ومقصدا للمتنزهين؛ لكن للأسف، ما بقي من الحي إلا الإسمنت ومن الأزهار إلا أسماءها”.
لا يتهدّدُ “سوسن طنجة” زحف الجرّافات فقط، بل إن ثلاث مؤسسات جامعية وحيّ جامعي بنيت كلّها في أهم مناطق تواجدها، فكان البناءُ نفسُه جُورا في حقّها، إضافة إلى ما تخلّفه المختبرات العلمية من موادّ كيماوية لا يتم التخلص منها أحيانا بالطريقة المثلى، فتتسرّب إلى الفرشة المائية بالمنطقة، مهدّدة حياة “سوسن طنجة” ووُجودها بالمنطقة.
ولو كنت قوي الملاحظة، فستلاحظ أن الزهرة، بلونها المميز، بدأت تختفي تدريجيا من هذه المناطق، وصار نادرا إيجاد مجموعة متقاربة منها تشكل غطاء بنفسجيا جميلا مزهرا كما كان الأمر في السابق.
زهرة ملهمة
مالُ الزهرة، وما تتعرّض له من “وأد”، أوْحى للشاعر المغربي محمّد الحافظ الروسي بأبياتٍ كتبها خصيصا من أجلها، يقول فيها:
وضعتُ على كفكم سوسنهْ حكايةُ زهر على مئذنهْ
لها زرقة البحر من ألف عيد وصفرة حب لألف سنهْ
ترى طنجةً في تلاوينهــــــــــا ووادي الزهور شذى الأمكنة
إريسُ، نعم، قصةٌ محزنهْ
تـمد يــدا نـحـــوكم مُعْلَمَــهْ فـتـقـطـعـهــــا آلــة مجرمــــــــهْ
وتبني جدارا كريه الزوايا بأنقاض أنفاسها الـمـحكَمَهْ
ووأدُ الزهور كوأد النســـاء إذا صيغ في مسلك التوأمهْ
إريسُ، نعم، قصةٌ محزنهْ
لطنجة عشق على مـذهـبـــــــي قديمٌ يواري غدي الـمـخـتـبـي
فـفـيـه الـريـاض تـــمـــــــامُ البهــــــاء وفيه الزهور على مـكـتـبــي
على السوسن الغض يبكي الفراق فترنو جيوب إلى المكسب
إريسُ، نعم، قصةٌ محزنهْ