تتذكر أجيال ما قبل ثورة الإنترنت في طنجة تلك الفترة التي كان إنجاز بحث خلالها يعد عملية معقدة ومرهقة، لكنها مثمرة جدّا، ومفيدة من الناحية المعرفية.
وسواء كان البحث لموضوع في مرحلة الابتدائي، أو حتى الجامعي، فإن الملاذ الوحيد كان هو المكتبات العمومية، حيث تصطف في الرفوف تلك الكتب لمختلف عناوينها وأغلفتها وحتى ألوانها.
ولأن الكتاب كان هو مصدر المعلومة والاطلاع الوحيد حينها، فإن أسعاره لم تكن في متناول الجميع، وبالتالي فالمكتبات العمومية المجانية كانت أيضا هي الملاذ لمن يريد فقط الاطلاع والاستزادة في موضوع ما، أو حتى قراءة رواية أو قصة.
مكتبات مهجورة
جاءت ثورة الإنترنت، وللأسف، بدل أن تخدم هذا القطاع أكثر، مثلما حدث في دول عدة، أثرت عليه سلباً وغاب عنه الرواد واكتفى الجميع بهواتفهم الذكية وحواسيبهم في إنجاز المطلوب مؤثرين ما هو سهل.
وبنظرة سريعة على الطريقة التي ينجز بها التلاميذ بحوثهم في مدينة طنجة ستدرك أن الأمر لا علاقة له إطلاقا بالتعليم، إنما هو فقط إنجاز المطلوب من طرف الأستاذ، الذي بدوره لا يكلف نفسه مراجعة ما هو مكتوب ما دام التلميذ قد أحضره.
وبجولة صغيرة في مقاهي الإنترنت بالمدينة، على قلّتها، ستكشف حجم الكارثة في هذا الباب، حيث يطلب التلميذ من صاحب المقهى بحثا جاهزا عن موضوع ما، فينجزه له بسرعة البرق ويقبض الثمن.. ومريضنا ما عندو باس.
غياب التكوين
يشتكي قيمو المكتبات العمومية بطنجة من غياب هذا النوع من التلاميذ الباحثين بشكل شبه مطلق، فالكسل أصبح هو السائد، ومن النادر أن يأتي أحد فقط من أجل بذل مجهود وإنجاز بحث في المستوى من خلال الكتب المتوفرة في المكتبة.
تقول قيمة مكتبة بأحد أحياء المدينة “هناك أيضا مشكل غياب التكوين لدى الموظفين الجدد غير المتخصصين في المجال، بحيث تصبح المصيبة مصيبتين، فلا الباحث يدرك كيف يبحث، ولا القيّم يدرك كيف يساعده، أو حتى كيف يقوم بتصنيف ما لديه من كتب وترتيبها وفق ما يحدده علم المكتبات (تصنيف ديوي العشري على سبيل المثال لا الحصر)”.
وتضيف “هكذا، وعلى مستوى العامل البشري، يبدو أن المكتبات العمومية تسير فعلا في طريق شبه مسدود، ما لم يتم اتخاذ إجراءات وخطوات على مستويات أعلى”.
الإقبال في فترة الامتحانات
ربما فترة الإقبال الوحيدة التي تعرفها المكتبات على مدار السنة هي فترة الإعداد للامتحانات، والتي يجد فيها الطلبة في المكتبات ملاذا هادئا ومكانا مناسبا للمراجعة والدراسة.
وهذا أيضا من أدوار المكتبات العمومية، ومن الجميل أن تستمر هذه العادة ولو لربط التلاميذ والطلاب بهذه الأمكنة، إلى حين اعتماد استراتيجية حقيقية تحيي دور هذه الأماكن، رسميا ومجتمعيا.
المكتبة الجماعية.. محاولة إنقاذ ناجحة
لعل واحدة من نقاط الضوء في هذا الباب، ما قامت به مقاطعة السواني مؤخرا عندما قامت بنقل حوالي 8000 كتاب من مبنى المكتبة الجماعية السابق بمنطقة “الرويضة” والذي كان آيلا للسقوط، نحو دار الشباب الأندلس، البناية الجديدة التي لم تبدأ الاشتغال بعد.
إنقاذ هذا الكنز المعرفي الثمين لم يكن أمرا يسيرا، بل تطلب مجهودا دام لسنوات، يقول عنه رئيس المقاطعة محمد سعيد أهروش أن الأمر تطلب محاولات بدأت منذ سنوات “لكنها كانت دائما تجد من يقف في وجه إنجاحها”.
ويضيف أهروش أنه شارك شخصيا في مفاوضات مع نظارة الأوقاف من أجل نقل الكتب إلى مكتبة مسجد طارق بن زياد، “لكن دون جدوى”.
كما تواصلت المحاولات طيلة الفترة بين 2009 و2015، حيث تم طرح الموضوع على الوالي السابق الذي وعد ببناء مكتبة جديدة، لكن هذا أيضا لم يحدث، ثم بعد سنة 2015، وفي فترة ولاية المجلس الجماعي السابق، قدمت المقاطعة طلبا من أجل تخصيص طابق بمركز بوكماخ الثقافي للمكتبة، وتمت الموافقة على ذلك وبدأت عملية النقل فعلا، قبل أن يتم توقيف العملية مرة أخرى، لأسباب متداخلة.
وأخيرا وفي بداية هذه السنة، تم نقل الكتب فعلا للمبنى الجديد، واحتلت حوالي 4 حجرات منه، وسط مجهود كبير بذلته عدة جهات.
مكتبتا “عبد الله كنون” و”طارق بن زياد”
رغم أن مكتبة عبد الله كنون هي مكتبة تابعة للخواص وليس لمديرية الثقافة، إلا أنها تبقى مكتبة عمومية قدمت الكثير جدا للباحثين والقراء بالمدينة، وظلت ملاذا لهم لعقود طويلة.
لكن إثر انتشار جائحة كورونا أغلقت المكتبة أبوابها، وللأسف استمر الأمر إلى يومنا هذا رغم تراجع الجائحة بشكل كبير وعودة الحياة الطبيعية إلى سابق عهدها.
أما مكتبة مسجد “طارق بن زياد” (السعودي)، فقد عادت مؤخرا للاشتغال وفتحت أبوابها في وجه الرواد بعد إغلاق دام سنين، وهي أيضا مكتبة غنية وتضم تحفا ومراجع هامة جدا للباحثين.
المكتبة الوسائطية الكبرى “إقرأ”.. في انتظار الافتتاح
من أسوأ النماذج على التعاطي مع المكتبات العمومية بطنجة نجد مكتبة “إقرأ” الوسائطية بطنجة، التابعة للوزارة، والتي تم بناؤها وتجهيزها بشكل فريد، لكنها للأسف لا زالت لم تشتغل إلى الآن.
والغريب أن المكتبة تزخر بالموظفين، ويمكنها بدء الاشتغال في أي وقت، لكن الأمر معلق للأسف دون أي توضيح من وزارة الشباب والثقافة والتواصل.
كما تضم المكتبة آلاف الكتب القيمة ومجهزة بشكل حديث ورائع، لكن هذا لن يدوم لو طال إغلاق المكتبة في وجه الرواد، خصوصا أن علامات الإهمال بدأت تظهر على الجدران الخارجية من الآن.
مكتبات الأحياء.. في الحاجة إلى مجهود أكبر
مكتبات الأحياء الصغيرة تعتبر كنزا حقيقيا بالنسبة لساكني الأحياء الشعبية خصوصا، وقد كانت واحدة من أفضل الطرق لتقريب المعرفة من المواطن، ويأمل متابعون أن تستمر في أداء هذا الدور.
ووفق قيّمات وقيمين على هذه المكتبات، فإنه تحتاج إلى تطوير وصيانة سواء على مستوى البنية أو اللوجيستيك، فالطريقة التي تشتغل بها هذه المكتبات لا زالت بدائية، والرقمنة لم تلج أغلبها على أكثر من صعيد.
ووفق “م.س”، مواطن من طنجة فإن هذه المكتبات لا ينبغي أن تكتفي بفتح أبوابها في التوقيت الإداري فقط “فمهمتها أكبر من ذلك، وعليها أن تنظم أنشطة لتقريب الطفل وتحبيبه في المكتبة، وتحويل المكان إلى بؤرة نشاط ثقافي متواصل”.