من المؤكد أن فصل الصيف يختلف من زمن إلى زمن، وظروف الحياة فيما مضى كانت تختلف عمّا هي عليه الآن، فلا قنوات فضائية تبث على مدار الساعة ولا هواتف ذكية ولا أيا من وسائل التسلية الأخرى، ما عدا قناة وطنية واحدة تفتتح برامجها زوالا بشكل استثنائي، تمييزا لفصل الصيف عن باقي الشهور، التي لم يكن يبدأ فيها البث قبل السادسة مساءً.
لذا، كان لابد أن يجد الطنجاويون وسائلَ للتسلية وقضاء الوقت، سواءٌ في فترة النهار أو أثناء السهر ليلا، ولم تكن وسائلُ التسلية تلك سوى ألعاب شعبية متنوّعة بعضُها كان يمارس على مدار السنة، وبعضُها كان خاصّا بفصل الصيف فقط.
على ناصية أحد المقاهي، يُجالس “محمّد.س”، 49 سنة، مجموعةَ أصدقاء. يقول لنا وهو يحتسي فنجان قهوته محاولاً استحضار تلك الفترة التي سألناه عمّا ميزها، “أذكر أنّ اليوم في الصيف كان طويلا وشاقّا وقتها في غياب أي وسيلة لتمضية الوقت، خصوصا بالنسبة لنا نحن الشباب، لهذا كنا نمارس مجموعة ألعاب، بعضها لا يتطلب أي حركة ويكون داخل البيت وهي ألعابُ نهارية في الغالب. أما ألعاب الحركة فكنا نتركها لفترة الليل”.
يواصل محمّد، وهو يعتصر ذاكرته ليكشف لنا عن إحدى هذه الألعاب، “كانت هناك لعبة (الملاقف)، وهي لعبة داخلية تُمارس بواسطة أربعٍ حصوَاتٍ في حجم حبّات العنب تقريبا، وتتطلب من اللاعب مهارة وتركيزا كي يقوم باجتياز كل مراحلها، فهناك مرحلة تتطلب أن يرمي الحصاة الرئيسية ويلتقط تلك التي في الأرض دون أن يحدث أي ارتطام بين الاثنين، وأيّ صوتٍ صغير يعتبر خطأً، إضافة إلى مراحل أخرى متنوعة تعتمد في مجملها على رمي الحصاة الرئيسية والتقاط الباقي الذي يتم نثره على الأرض”.
يُشارك في لعبة الملاقف، بحسب محمّد، أكثر من لاعب ويمرّ الدور عليهم الواحد تلو الآخر، وأوّل من ينهي جميع المراحل يعتبر فائزا؛ حيث يكوّن اللاعبون الجالسون حلقة دائرية يعتبر وسطها هو “الملعب”.
وعن الألعاب الليلية، يقول لنا “يوسف.ع”، 40 سنة، جليسُ محمّد، إنها كانت الأكثر حركية وحيوية، خصوصا بعد أن تنزل درجات الحرارة ويتحرك الهواء العذب، لاسيما وأن من يمارسها مراهقون يمتلئون بالطاقة والرغبة في الحركة، “هناك لعبة كان اسمها (سالطا كابايّو)، وأظن أنها أصلها إسباني، وبها نسبة لا بأس بها من المخاطرة؛ حيث يقف أحد اللاعبين إلى الجدار، بينما ينحني الباقون في وضع الركوع وأوّلهم يلصق رأسهم باللاعب الرئيسي الواقف بالجدار، وعلى الفريق الثاني أن يرتمي الواحد تلو الآخر فوق الجسر البشري الذي شكله الفريق الأول، وذلك دون أن يسقط أيّ منهم مُحافظين على توازنهم لمدة معينة، وهكذا”.
يؤكد لنا يوسف أن لعبة “سالطا كابايّو” كانت خاصة بالذكور، وأنها كانت تلعب في فصل الصيف بشكل خاصّ، بينما لعبة الملاقف يلعبها الجميع، ذكوراً وإناثاً.
وعن الألعاب التي تلعب داخل البيت، قالت لنا “لطيفة.س”، 45 سنة، “لعبة الورق (الكارطا) كانت تعرف إقبالا كبيرا في الصيف، خصوصا قرب المنازل والبيوت، مع حضور أبناء الجالية، إلى درجة أن محلات البقالة كانت تحضر كميات كبيرة منها تحسبا للمبيعات التي تزداد في تلك الفترة، ونحن نعرف أن هناك عشرات الطرق للعب الكارطا، لكن كانت هناك طرق محددة هي التي نختارها على رأسها ما يعرف بـ(كوبي – كانت)، والتي كانت تتطلب مهارة ومراقبة للخصم، كما كان ينتج عنها (أحكام) في حقّ المنهزمين؛ بحيث ينفذون ما يطلبه منهم المنتصرون”.
ورغم أن اللعبة كانت تمارس نهارا في الغالب لتمضية الوقت، إلا أن لطيفة تؤكد أنها كانت تحلو في الليل أيضا، حيث يتحلّق عدد من أبناء الحيّ أو الأسرة الواحدة ليستمتعوا باللعب وأجوائه.
“الدّاما”، بحسب ما صرّح لنا “السي عبد السلام”، 65 سنة، كانت من وسائل التسلية التي يقبل عليها الكبار أيضا، خصوصا أنها لا تتطلب سوى رسم مستطيل صغير على الأرض وبضع أحجار بلوْنين مختلفيْن، وهي بالمناسبة لا زالت تلعب بين الأصدقاء المسنين لحد وقتنا هذا، هي ولعبة الدومينو.
تدور لعبة الداما بين خصمين على أحدهما أن “يلتهم” أحجار الآخر، والمنتصر هو من تبقى أحجاره سالمة فوق رقعة اللعب.
ولعلّ ما يميز “الداما” كان يميز باقي الألعاب السابقة التي لم تكن تتطلب أي إمكانيات أو معدات، ومع ذلك لا يرى لها أثرٌ في جيل اليوم إطلاقا.
إضافة إلى كل هذه الألعاب، كانت هناك عدة ألعاب خفيفة وشهيرة حتى عالميا ربما، كلعبة الغمّيضة ولعبة “الجري د التحرير”، ناهيك عن المباريات التي كانت تقام وسط الأحياء ليلا، بل ربما وسط الشوارع المخصصة للسيارات التي كانت الحركة فيها خفيفة ونادرة.
هي ألعابٌ منبعها الحماس والنشاط والرغبة في الحركة، ألعابٌ مصاريفها صفر درهم، وفوائدها على النفوس ومتعتها لا تقدّر بثمن، لكن وحش التكنولوجيا التهم كل شيء للأسف ولم يترك لنا سوى بقايا ذكريات نأمل أن نستعيدها بشكل أو بآخر.