د، محمد عزيز الطويل – كاتب من طنجة، باحث في التاريخ الحديث والمعاصر
في سياق الانقلاب وأسبابه
في عز الأزمة العالمية اقتصاديا وعسكري وسياسيا، أصبح للانقلاب العسكري بالنيجر الحيز الأوفر في التغطيات والأخبار الصحفية والتحركات الدبلوماسية. فأمام ارتفاع حدة التضخم التي تكاد تعصف بالعديد من الدول، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية والتي يبدو أن لا نهاية لها على الأقل في المدى القصير والمتوسط، إلى جانب بروز سياسة تعدد الأقطاب كبديل للقطب الواحد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، حيث أصبح الحديث عن منظمات وتكتلات ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي، وأقصد هنا منظمة “البريكس”. إلى جانب منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “سيدياو/إيكواس”، التي بالرغم من مؤهلاتها وثرواتها الضخمة، لازالت بعيدة عن تحقيق تقدم اقتصادي حقيقي، يضمن العيش الكريم والاستقرار لدول المجموعة.
ففي خضم هذه التطورات والتجاذبات، قام الانقلاب العسكري بالنيجر ليزيد من حدة التوتر، ولتبرز لنا مقالات تحليلية مبررة أو متهمة لهذا الطرف أو ذاك حول دوره في الانقلاب، والذي يعتبر في جميع الأحوال خدمة لهذا الطرف أو ذلك بما يحمله من إيديولوجية وتوجه سياسي واقتصادي.
ومن الضروري أن نعلم أن دولة النيجر قد شهدت خمسة انقلابات عسكرية منذ استقلالها سنة 1960. فقد شهدت البلاد أول انقلاب عسكري سنة 1974، ثم انقلاب سنة 1996، ثم سنة 1999، ثم سنة 2010، ثم الانقلاب الأخير على الرئيس المنتخب “محمد بازوم” الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية قبل انتخابه رئيسا للبلاد. والجدير بالذكر أن الرئيس “بازوم” نفه سبق أن واجه محاولة انقلابية ليلة الثلاثاء الأخيرة من شهر مارس 2021، أي قبل يومين من تنصيبه رئيسا، لتخرج الحكومة المنتخبة بيانا تتحدث فيه عن إحباط المحاولة الانقلابية التي اعتبرتها “عمل جبان ورجعي يهدف إلى تقويض الديمقراطية ودولة القانون اللتين انخرطت فيهما بلادنا بحزم” حسب ما جاء في نص البيان.
في جميع الأحوال، لا يمكن النظر إلى انقلاب النيجر كحالة منفردة أو معزولة، بل يجب النظر إليها في إطار يسترعي ما يلي:
- أن افريقيا تشهد تزايدا في الانقلابات العسكرية، حيث تتساقط الدول تحت قبضة العسكر كما تتساقط أحجار الدومينو الواحدة تلوى الأخرى، وهو ما ينبئ بمزيد من التطورات مستقبلا. فخلال عشر سنوات وقعت عشرة انقلابات عسكرية: انقلاب مالي سنة 2012، ثم الانقلاب العسكري بغينيا بيساو سنة 2012 كذلكن ثم انقلاب بدولة بوركينا فاسو سنة 2015، ثم انقلاب عسكري بزيمبابوي سنة 2017، والانقلاب بمالي سنة 2020ن والانقلاب بتشاد سنة 2021، ثم عودة الانقلاب العسكري بمالي سنة 2021 على الحكومة الانتقالية، ثم الانقلاب بغينيا سنة 2021، ثم الانقلاب ببوركينافاسو سنة 2022. ليكون انقلاب النيجر العاشر وليس الأخير.
- تطور طبيعة العلاقة ما بين دول الساحل وجنوب الصحراء الكبرى مع فرنسا .حيث طالبت العديد من الدول بسحب القوات العسكرية الفرنسية من أراضيها ووضع حد لقوات بارخان.
- طبيعة تجاذبات القوة العالمية في إطار بروز الملامح الأولى لنظام عالمي جديد ولعل الحرب الروسية الأوكرانية تعتبر بداية لها رغم أن الملاح العامة والتشكيل الإيديولوجي والاقتصادي لهذا النظام لازالت لم تظهر بعد.
- بروز افريقيا على خريطة الصراع الجيوسياسي، بالنظر لثرواتها الطبيعية الهائلة، وسوقها الاستهلاكية، وارتفاع الساكنة الشابة على مستوى هرمها السكاني مما يعني يدا عاملة قوية ومنتجة، إلى جانب تحقيقها لمستويات نمو مرتفعة.
- بروز فئة عريضة من ساكنة افريقيا حانقة على الغرب وعلى فرنسا خصوصا التي تستغل ثرواتها وتتركها عرضة للجوع والجهل والتخلف، وبالتالي الدعوة إلى استعادة السيادة الوطنية والتي لا يمكن أن تتحقق إلا بالسيطرة على الثروات الطبيعية.
تداعيات الانقلاب في ظل في ظل تناقض مصالح القوى العالمية الكبرى
السؤال المطروح الآن هو : ما هي تداعيات الانقلاب بالنيجر على منطقة الساحل وعلى العالم؟
فبعدما استطاع الانقلابيون يوم 26 يوليوز السيطرة على دواليب السلطة بالنيجر، عبرت العديد من دول المنطقة عن إدانتها الصريحة خاصة دول المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا “إيكواس”، ثم منظمة الاتحاد الإفريقي، كما أدانت دول الاتحاد الأوربي إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بالانقلاب ودعت بالعودة إلى المسار السياسي وإطلاق سراح الرئيس المحتجز، في حين فضلت العديد من الدول إبداء تحفظها حيث لم تعبر عن إدانتها للانقلاب، كما لم تعبر عن تأييدها لها في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا. في حين كان التأييد الصريح للمجلس العسكري في النيجر من قبل ثلاث دول وهي مالي وغينيا وبوركينافاسو. حيث حذرت هذه الدول في بيان مشترك من أي تدخل عسكري بالنيجر، دون أن ننسى أن هذه الدول حديثة العهد بالانقلابات العسكرية، والتي تتهمها العديد من الأطراف بالسقوط تحت النفوذ الروسي واستعانتها بقوات “فاغنر”.
إن من قدر دولة النيجر أن تقع جغرافيا في منطقة ملغومة بالانقلابات العسكرية، وبصراع القوى العالمية على الثروات خاصة الذهب واليورانيوم. ولم يكن خفيا على المتتبع للتطورات الجيوسياسية تراجع النفوذ الغربي بمنطقة الساحل ونحن نعني هنا فرنسا والولايات المتحدة اللتان اقامتا قواعد عسكرية بالنيجر تحت مبرر رعاية الديمقراطية وضمان الأمن ومواجهة الجماعات الجهادية التي تنشط بمنطقة الساحل، وهذه القواعد العسكرية لا زالت قائمة إلى غاية الآن، وربما تكون بمثابة رأس حربة في أي تدخل عسكري محتمل. ونجد أن فرنسا تعتبر المسؤول عن ما آلت إليه الأوضاع بدول منطقة الساحل الإفريقي، فقد حرصت فرنسا المستعمرة السابقة لهذه المنطقة على تكثيف استغلالها لثروات هذه الشعوب وتكثيف قبضتها العسكرية، في حين تناست جهود التنمية وإقامة البنية التحتية الأساسية وتوفير فرص العمل. فإلى غاية الآن قامت أربع دول بانقلابات عسكرية من بين 10 دول مكونة للساحل الإفريقي، حيث لم يتبقى سوى نيجيريا والسينغال والجابون وموريتانيا التي تتمتع باستقرار سياسي نسبي، خاصة مع وجود حركات انفصالية ببعضها. وهذا الأمر لوحده كان كفيلا بإعادة فرنسا ومعها الغرب الرأسمالي سياستها الاستغلالية، في ظل تحولات جيوسياسية يشهدها العالم، وتعد إفريقيا آلية أساسية في هذه التحولات الممهدة لنظام عالمي متعدد الأقطاب، أضف إلى ذلك الصحوة التي تشهدها بلدان إفريقيا والتي ترى أن بلدانها لم تكسب من فرنسا سوى المزيد من الجوع والفقر والجهل والهجرة والتخلف، رغم ما تتوفر عليه من ثروات، وهي معادلة لا تستقيم بتاتا، الأمر الذي دفع هذه البلدان إلى الانفتاح على فاعلين دوليين جدد، وتنويع الشركاء الاقتصاديين، خاصة مع الصين وروسيا والهند وتركيا وإسرائيل، على اساس رابح-رابح. فرغم أن هذه الشراكات الجديدة ستكرس بدورها منطق الاستغلال كذلك، إلا أنها على الأقل ستوفر مشاريع تنموية من شأنها تغيير المعادلة الفرنسية القائمة على الاستغلال فقط، حيث سيصبح التخفيف من الاستغلال مكسب في حد ذاته.
من أولى التداعيات مسارعة وزير الخارجية الأمريكية “أنتوني بلينكن” إلى اتهام روسيا وقوات فاغنر بمحاولة الاستفادة كمن الانقلاب وعدم الاستقرار بالمنطقة، ودعا في نفس الوقت إلى ضرورة استعادة الديمقراطية، حيث أعلن أن واشنطن أوقفت التنسيق الأمني والمساعدات المالية والتي تعتبرها بمثابة صبغ الشرعية على الانقلاب والمجلس العسكري في حال استمرارها. كما أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية نائبة وزير الخارجية “فيكتوريا نولاند” إلى عاصمة النيجر “نيامي” لإجراء مفاوضات مع المجلس العسكري، حيث عرضت على الأخير القيام بدور الوسيط لحل الأزمة، غير أن طلبها ووجه بالرفض. وفي نفس الإطار أوقفت فرنسا والاتحاد الأوربي مساعدات بمئات ملايين الدولارات، كما اصدرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا عقوبات، أبرزها فرض حظر سفر وتجميد أصول العسكريين المتورطين في الانقلاب العسكري، توقيف جميع التعاملات التجارية والمالية بين النيجر والدول الأعضاء ل “إيكواس”، ثم منح مهلة لإعادة السلطة السياسية إلى النيجر. لكن المجلس العسكري بالنيجر لم يستجب لهذه العقوبات التي اعتبرها حصار اقتصادي لشعب النيجر. وأما تعنت هذا الأخير لوحت دول الإيكواس بالتدخل العسكري، خاصة أمام الضغوط التي تفرضها فرنسا على قادة دول الإيكواس لتدعيم اختيار القوة العسكرية. غير أنه رغم عقد قمتين لدول الإيكواس تم أخيرا تغليب الحل الدبلوماسي واستبعاد التدخل العسكري إلى حدود الآن على الأقل، خاصة مع معارضة بوركينافاسو ومالي وغينيا لأي تدخل عسكري.
لقد وضع انقلاب النيجر دول المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا قرارات وفعالية هذا التكتل الجيوسياسي والاقتصادي على المحك، بل إن العديد من التحليلات تعتبره بمثابة غطاء وآلية للغرب لتنفيذ الأجندات السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومواجهة تمدد الصين وروسيا بالمنطقة. وهي نفس التحليلات التي تعتبر أن نجاح الانقلاب واستمراره وإعطاء الشرعية للمجلس العسكرين سيعد بمثابة وضع المنطقة تحت نفوذ مباشر لفاغنر، والذي استطاع أن يجد له موطئ قدم بثلاث دول مجاورة انقلابية. وهو ما سيتيح الفرصة أما الجماعات الجهادية لتكثيف نشاطها بالمنطقة، وتوسيع دائرة التدخلات الأجنبية الت يستكون بمثابة شرارة لحرب جديدة ستكون عواقبها وخيمة على الدول المجاورة وعلى أوربا أمنيا واقتصاديا إذا أخذنا بعين الاعتبار ملف الثروات الطبيعية التي تضمن رفاهية الغرب، وملف الهجرة الذي يعد من الملفات الحارقة بالنسبة لدول الاتحاد الأوربي.
وقبل الختام، نؤكد على أن قيام أي نزاع محتمل بالنيجر ستكون له عواقب وخيمة على دول الجوار، خاصة الدول العربية الحدودية الممثلة في الجزائر وليبيا ثم موريطانيا والمغرب، وعموما يمكن تلخيص التداعيات على هذه الدول في تدفق المهاجرين وتكثيف نشاط الاتجار بالبشر، وتصاعد عمل المرتزقة والجماعات الارهابية، وضياع العديد من المشاريع الاقتصادية الكبرى كخطوط الألياف البصرية وأنابيب البترول والغاز الطبيعي وإمدادات المواد الغذائية، وتوقف التجارة، بحيث سيكون التأثير يختلف من دولة إلى أخرى حسب القرب وحجم الاستثمار، ناهيك عن دخول النيجر في أجندة الصراع الدولي وتقاسم مناطق النفوذ. ولازالت التداعيات غامضة، ليبقى محددها الأساسي مستوى تدخل قوات الإيكواس. ففي حال مباشرة التدخل العسكرين هل سيكون التدخل العسكري حاسما لإنهاء الانقلاب. ؟ أم أنه سيكون بمثابة فتح لأبواب النزاع العسكري والاضطراب والفوضى بالمنطقة؟