تحت العنوان أعلاه تناولت وكالة العالم العربي للأنباء الصيت العالمي لمقهى “الحافة” الشعبي، الذي يعتبر ملاذا لعدد كبير من ساكنة المدينة وزوارها.
وتناول المقال تاريخ المقهى وأهم الشخصيات التي زارته إضافة إلى تناول موقعه المميز وإطلالته الساحرة التي جعلته مقهىً “عالميا”.
وهذا نص المقال:
لا يمكن لزائر طنجة أن يغادر المدينة قبل أن يتوجه إلى “الحافة”، ذلك المقهى البسيط الذي شُيد قبل ما يزيد على قرن من الزمن فوق هضبة مرشان المطلة على جبل طارق على مرمى حجر من إسبانيا، والذي أصبح المقهى الأكثر شهرة في المغرب وأحد أشهر المقاهي في العالم.
“من زار طنجة ولم يصل الحافّة، لم ير طنجة” عبارة يرددها كل من أتيحت له فرصة زيارة المدينة الواقعة على ارتفاع 145 مترا فوق سطح البحر والتي يسميها المغاربة “عروس الشمال” حيث تلتقي على ساحلها مياه البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي.
تحول “الحافة” من مشروع بسيط لكسب العيش إلى مزار سياحي عالمي وقبلة لمشاهير المغرب والعالم، حيث يتميز بموقعه الاستراتيجي وببساطته وبنائه البسيط، حيث تتناثر الطاولات الإسمنتية والكراسي البلاستيكية فوق مدرجاته وتملأ أشجار التين المكان في عشوائية بسيطة ومتناغمة.
محمد الحردوشي، عضو المكتب الإداري لجمعية (البوغاز) في طنجة، وابن حي مرشان، يقول إن المقهى بناه امْحمد علوش، الذي كان في نيته إنشاء مشروع بسيط لكسب العيش والذي كان يستقطب أبناء حي مرشان في البداية.
وأضاف الحردوشي في حوار مع وكالة أنباء العالم العربي (AWP) أنه بمرور الوقت، وبحكم موقعه الجغرافي المتميز المطل على البوغاز، أصبح المقهى قبلة لجميع الشرائح الاجتماعية باختلاف أعمارهم وميولهم؛ ففي المقهى تجد من يهوى الموسيقى الأندلسية والموسيقى الغربية على حد سواء.
كوب شاي بالنعناع وأشجار التين
وأشار إلى أن المقهى، على الرغم من بساطته، مقسم بطريقة تُراعي خصوصيات زوّاره وأذواقهم؛ فمثلا، لمن يحب الاستماع إلى الموسيقى الأندلسية، هناك زاوية لهذا يُمكن فيها لعشاق هذا اللون الموسيقى الاستمتاع بها دون إزعاج من بقية الزائرين؛ ومن يهتمون بالرسم التشكيلي لهم مكان خاص، حيث يمكنهم الرسم في مساحة مخصصة لهذا الغرض؛ ومن يهوون القراءة كذلك لهم مكان منعزل يمكنهم المطالعة فيه دون شوشرة.
تصميم مقهى (الحافة) عبارة عن خمسة مدرجات متوازية، تتخلل كل مدرج منها طاولات إسمنتية مزينة بالزليج المغربي (بلاط فسيفسائي) والكراسي البلاستيكية الملونة تحت ظلال أشجار التين التي تملأ المكان.
وعلى الرغم من الاعتباطية في تشييده، فإنه كان ولا يزال المقهى الأكثر شعبية في مدينة طنجة، حتى إنه لا يمكن لزوار المدينة الأجانب أن يكونوا موجودين فيها دون زيارة المقهى واحتساء كوب الشاي بالنعناع، وهو المشروب الأكثر طلبا هناك.
ويتذكر الحردوشي حينما كانت أمواج البحر تتلاطم في أسفل المنحدر، حيث يوجد المقهى منذ ما قبل إنشاء طريق دائري خفف شيئا ما من السير تحت المنحدر، لكنه أفقد المقهى خصوصيته وتميزه؛ وقال “كان النظر إلى البحر مسترسلا دون انقطاع، وأصبحت السيارات تمر أسفل المنحدر وهذا أمر انتقص شيئا من الجاذبية المتميزة للمقهى”.
وتابع أنه في حياة امْحمد علوش، كان يعتني بأشجار المكان ويليها عناية فائقة، ولكن بعد وفاته أصبح تسيير المقهى يحكمه المنطق التجاري، لا يراعي البساطة. وقال “نحن في جمعية البوغاز نسعى إلى الحفاظ على الإرث المعماري والثقافي لمدينة طنجة، ويهمنا الحفاظ على خصوصية المكان، ولكن بتلاشي هذه المقومات بجزئياتها وتفاصيلها الصغيرة تُفقد هذه الخصوصية”.
وكان مقهى (الحافة) قد صُنف ضمن لائحة الآثار بموجب قرار صادر عن وزارة الثقافة في عام 2016. وبموجب القرار، فإنه لا يمكن إحداث أي تغيير في المكان دون إخطار وزارة الثقافة قبل التاريخ المقرر للشروع في الأعمال بستة أشهر على الأقل.
جوق أندلسي وألعاب ورقية
ومن مميزات مقهى (الحافة) الذي يعتلي هضبة مرشان المطلة على البوغاز في أنفة وعنفوان هو أنه شهد في وقت سابق توافد شخصيات سياسية وفنية وأدبية عالمية، فضلا عن أن المقهى يستقبل جميع الشرائح الاجتماعية وجميع الفئات العمرية.
وتحدث الحردوشي عن ليالي رمضان بالمقهى، قائلا: “لا يمكن الحديث عن مقهى الحافة دون ذكر ليالي رمضان بهذا المقهى، التي كانت تمر في أجواء خاصة وفي عبق خاص تمتزج فيه الموسيقى الأندلسية المعزوفة من جوق المدينة ويتحلق حولها المولعون بهذا الفن، ويجتمع بالمقهى أيضا هواة الألعاب الورقية ولعبة البارتشي الإسبانية”.
من جانبه، ذكر بدر الدين الرواص، المتخصص في الجغرافيا الاستراتيجية والمينائية في طنجة، أن مقهى (الحافة) يرجع اسمه إلى حافة هضبة مرشان التي بُني عليها.
وأضاف أن هذه الهضبة تشتهر باحتوائها مقابر بونيقية تعود إلى العصر القديم، مشيرا إلى أن مضيق جبل طارق كان أشهر المحاور التجارية العالمية وورد ذكره عدة مرات في المصادر التاريخية القديمة، ومنها رحلة حانون القرطاجي وكتابات المؤرخ الإغريقي هيرودوت، الذي كتب حول غرب المتوسط، إضافة إلى المؤرخ تيودور الصقلي والجغرافي سترامون، وعند المؤرخين العرب نجده عند المؤرخ ابن حوقل.
وأفاد الرواص في حديث مع وكالة أنباء العالم العربي بأن المقهى لدى تشييده في عام 1921 كان ملكا لأحد الرعايا الفرنسيين وكان يحمل اسم (لاگانگيط فلوري)، والتي تعني المكان المفتوح للأكل والشرب، ولكن ملكيته انتقلت إلى امْحمد علوش، ابن مدينة طنجة، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، حيث أصبح ناديا ومقرا لأصدقائه قبل أن يتحول إلى مقهى شعبي كبير.
وأضاف أن المقهى بتصاميمه وبموقعه المتميز وما حظي به من خصوصية تاريخية، رغم بساطته، يعكس شيئا من روح مدينة طنجة المتميزة بالتعدد والتعايش، حيث يحترم رواده بعضهم بعضا ويتعايشون في جو يغلب عليه المرح والقبول بالآخر وبالاختلاف.
شكيب أرسلان وونستون تشيرشل
وأشار الرواص إلى أن المقهى كانت له عدة أدوار من خلال موقعه الاستراتيجي الذي جعل عمال طنجة يجلسون فيه أو يأتون إليه للتعرف على السفن التي دخلت الميناء، ومن أشهرها سفينة (موسكالبي) والتي كانت في الأصل عبارة عن مستشفى عسكري بريطاني متنقل إبان الحرب العالمية الثانية وتحولت فيما بعد إلى سفينة عابرة للمضيق تربط بين جبل طارق ومدينة طنجة، حيث كانت تنقل المواد الغذائية البريطانية لتسويقها في المدينة.
وتابع أن المقهى شكل أيضا مكانا للطلاب الذين كانوا يستمتعون بأجوائه الهادئة وهوائه العليل لمراجعة دروسهم، كما استقطب المقهى شخصيات سياسية وروائية وأدبية، منهم على سبيل المثال الكاتب محمد شكري صاحب رواية (الخبز الحافي) والعلامة المغربي صاحب كتاب (النبوغ المغربي) عبد الله گنون.
وكان من بين هذه الشخصيات أيضا الأديب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان الشهير بلقب (أمير البيان) والذي زار المقهى عام 1930، بالإضافة إلى الوزير البريطاني في تلك الفترة ونستون تشرشل الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى الروائي الأميركي بول بولز ومجموعة أصدقائه.
كما أتاح (الحافة) حيزا لتجمع جمعيات محلية من المدينة لإحياء التراث الموسيقي، حيث كان ضمن مجموعة من المقاهي التقليدية التي استقطبت العديد من فناني الطرب الأندلسي ورواده، وهذه المقاهي هي (السطح) و (حنفطة) و (باب المرسى).